كتابة: بترونيل جعارة
 
في الوقت الذي نتوقع فيه أن تركز المنظمات الدولية، وكالات الأمم المتحدة والجهات المانحة بشكل أفضل وأكثر جدية على كيفية التصدّي للعنف القائم على النوع الاجتماعي، لا زلنا نجد أنفسنا في موقع الكفاح لإيصال رسائل أساسية بديهية مرتبطة بضرورة ضمان تظهير البيانات والمعطيات بطريقة أخلاقية وآمنة بدلًا من التركيز على إظهار أعداد الناجيات.
 
كما هو معلوم، فإن العنف القائم على النوع الاجتماعي: هو أي فعل مؤذ يرتكب ضد إرادة الشخص بناءًا على الخصائص الاجتماعية المنسوبة للرجل والمرأة (النوع الاجتماعي). ويتجلى العنف القائم على النوع الاجتماعي بأشكالٍ كثيرةٍ ومنها الاغتصاب والاعتداء الجنسي وعنف الشريك الحميم والتزويج القسري والمبكر، ويتطلّب خدمات متخصّصة للاستجابة لهذه الحالات.
 
في بعض الأحيان، يتعرّض الرجال والفتيان للعنف القائم على النوع الاجتماعي، ولكن معظم الناجيات من العنف هنّ من الإناث. لا يشكّل العنف خطراً على حياة النساء والفتيات فقط، بل يعيق بشكلٍ كبير قدراتهن في الوصول إلى الوظائف والخدمات، ومشاركتهن في صنع القرار كما يعيق دعمهنّ للتنمية وتطوير المجتمع.
 
يحاول هذا المقال تفكيك الأساطير التي تتعلق بفريضة عرض أعداد الناجيات للجهات المانحة عند رفع التقارير عن نشاطات برامج العنف القائم على النوع الاجتماعي، كما يهدف لإيضاح أسباب الحاجة إلى بيانات أخلاقية وآمنة بدلاً من الأرقام، تسمح لنا فهم الأنماط المختلفة للعنف، وجمع معلومات قيّمة من شأنها تطوير نوعية الخدمات المقدّمة للنساء الناجيات وضمان حمايتهنّ وحقوقهن.
 
إن جمع وعرض أرقام وأعداد الناجيات من العنف القائم على النوع الاجتماعي، ممارسة إشكالية لا تجدي نفعاً وذلك لأسباب عدّة وأوّلها امتناع الناجيات عن التبليغ.
 
كم منّا نحن النساء والفتيات تعرضنّ لأنواع مختلفة من العنف في حياتنا ولم نبلّغ عنها قطّ؟ مع العلم أنّ الخدمات المقدّمة للنساء والفتيات المعرّضات للعنف أو الناجيات منه مصمّمة لبناء الثقة معهنّ، للإفصاح عن الحادثة/الحوادث إذا ما رغبن في ذلك، لكن رغم ذلك يخترنّ عدم الإفصاح، لأسبابٍ عديدة من بينها، لوم المجتمع للناجية وبالتالي قيامها بتحميل نفسها المسؤولية، الخوف من انتقام مرتكب العنف، عدم الثقة بالسلطات المعنية بالمتابعة وتأمين الحماية للناجية، رفض العائلة والمجتمع للناجية ووصمة العار تجاهها… تأتي هذه الاتهامات في الوقت المفروض فيه أن الشخص الوحيد الذي يجب لومه هو الشخص المعنّف فقط!
 
وتثبت التجارب أنَّه في حال قرّرت الناجيات الإبلاغ، غالباً ما يكون ذلك من خلال خدمات إدارة الحالة (خدمة متخصصة للناجيات من العنف وهدفها العمل معهنّ لضمان شفائهنّ وتعافيهن من العنف الذي تعرضن له)، التي أصبحت المدخل الرئيسي للإبلاغ عن حالات العنف. إلّا أن خدمات إدارة الحالات لا يمكنها أن تؤمّن تغطية كاملة في أي جزء من العالم، بما في ذلك لبنان، لجميع حالات العنف ضدّ النساء ولذلك فإن الأرقام المبلّغ عنها عادةً ما تكون أقل بكثير من الأرقام الواقعية.
 
كما أن أية بيانات متاحة في أي مكان، عن العنف القائم على النوع الاجتماعي (من الشرطة، أو القطاع الصحي أو القانوني أو غيرها من المصادر) لن تمثل سوى نسبة صغيرة جداً من العدد الفعلي لهذه الحوادث، وهي لم ولن تستطع عكس واقع أو حجم ظاهرة العنف أو مدى انتشارها. إذا صرّحنا في تقاريرنا مثلًا عن أن 500 امرأة تعرضن للعنف القائم على النوع الاجتماعي، فما الذي استطعنا تقديمه من خلال عرض هذا الرقم؟ هل نكون قد استطعنا فعلًا أن نعكس حجم ومدى انتشار العنف ضدّ النساء؟ ماذا فهمنا عن عمرهن أو نوع العنف الذي تعرضن له أو الأماكن والظروف التي قد تكون سمحت بتعرّضهن للعنف؟ فعلياً لم نستطع فهم شيء من هذا الرقم.
 
بناءً على ما تقدّم، فإنّه من واجب ومسؤولية العاملات والعاملين مع الناجيات، حثّ الجهات المانحة على نقل الاهتمام من أرقام العنف إلى أنماطه، وذلك عبر جمع بيانات ومعلومات تحترم سلامة وخصوصية وكرامة النساء والفتيات اللواتي تعرضن للعنف. يتم جمع هذه المعلومات من خلال نماذج وبرامج معينة (نظام إدارة معلومات العنف القائم على النوع الاجتماعي على سبيل المثال) والذي يتيح لنا تحليل هذه المعلومات والأنماط وعرضها في التقارير.
 
لأجل جميع النساء والفتيات، لا يسعنا إلاّ استكمال النضال بشتى الوسائل من ضمنها مشاركة المعلومات، المناصرة، الأبحاث، تقديم الخدمات، التوعية والكتابة عن العنف وأسبابه وسبل مواجهته… لعلنا نصل إلى فهم شامل وموحّد للتعامل مع أنماط العنف المختلفة وليس أرقامه، لعلنا نظفر بإنهاء العنف القائم على النوع الاجتماعي، لعلنا نحقّق العدالة الجندرية قبل مغادرة هذا الكوكب.