«أنا الأديب الأدباتي.. غايظني حال بلدياتي..

وغلبت أوحوح بآهاتي.. لكن بلدنا سمعها ثقيل» (أحمد فؤاد نجم)

 

لو راجعنا كل العقائد «الأبوكاليبتية» في التاريخ، لرأينا أنّها تتشابه في مسارها إلى حدّ التطابق، وهذا بغض النظر عن مسألة ارتباطها بعقيدة دينية أو «دوغما» سياسية. كلها ترتكز على أسطورة ما، وتؤكّد أنّ الشرّ يسيطر على الحاضر. وكلها تعتبر أنّه كلما زادت الفوضى والدمار كلما اقتربت النهاية، وكلما زادت علائم الفوضى كلما اقتربت عودة المخلّص، والإجماع هنا هو أنّ المخلّص سيقود المعركة الفاصلة بين الخير والشر، ليسود السلام المقدّس على فئة واحدة هي الناجية، لأنّها آمنت بالعقيدة وتمسّكت بها ودافعت عنها وضحّت لأجلها.

 

إنّها التعبير الصارخ عن جبروت الفكرة التي تأخذ عقول البشر جماعياً، فيتحوّلون إلى أدوات تتحّرك بالشعارات وبكاريزما القائد، من دون تفكير أو نقاش، ولا حتى مراجعة حسابات، عندما يصطدم الواقع بما يتناقض جذرياً مع القناعات المقدّسة.

 

ما لنا ولكل هذا الكلام، فلا أدّعي لنفسي الخروج من منطق التحليل السياسي البسيط للتعدّي على العلوم الإجتماعية التي تتداخل فيها ضروب شتى من المعطيات. لكن لو نظرنا اليوم إلى مشروع ولاية الفقيه والمشروع الصهيوني ومشاريع قومية وثورية سبقت على مدى القرنين الماضيين، لرأينا وجوه التشابه في النهج والفكر واضحة لا لبس فيها. لكن ذلك لا يعني أنّ هذه المشاريع صديقة بعضها لبعض، ففي الواقع هي تتنافس بنحو عنيف عادة، خصوصا إن وجِدَت في مجالات حيوية متجاورة، وهذا ما حدث مثلاً بين مشروعي ستالين وهتلر عندما تحالفا في بداية الحرب العالمية الثانية، ومن ثم تقاتلا بوحشية لا سابق لها في التاريخ للسيطرة على المدى الحيوي المشترك بينهما، ودفعت البشرية وشعوب اوروبا يومها أثماناً غير مسبوقة، رغم تاريخ نزاعاتها الدموية الطويلة.

 

مع كل هذا، أريد أن أؤكّد عدم اقتناعي بالنظرية القائلة بوجود مؤامرة فارسية صهيونية مشتركة على العرب، ولا بالمعطيات التاريخية المُستخدمة في تأييد تلك الحجج، من تاريخ هدم الهيكل الأول، مروراً باليمن في القرن الخامس ميلادي، وبتواريخ أخرى حتى وصولنا إلى يومنا هذا.

 

الواقع بالنسبة إليّ، هو أنّ العداوة حقيقية بين إيران وإسرائيل، ولكن سببها هو التنافس على مدى حيوي واحد. ولكن من ضمن هذا التنافس، فقد تمكن مشروع ولاية الفقيه، منذ إنشائه، أن يحقّق لإسرائيل ما لم تتمكن من تحقيقه بانتصاراتها المتكرّرة في المعارك والحروب، ولا بتفوقها التقني والإقتصادي.

 

ـ أولاً، من ناحية تقاطع المصالح، فإنّ التدخّل الإيراني تحت شعار تعميم الثورة والتحضير لعودة المهدي، أدّيا إلى تدمير جزء كبير من المنظومات المسماة وطنية المحيطة بإسرائيل، وبالتالي فإنّ معظم الحديث يدور اليوم حول إعادة تركيب كيانات صغيرة الحجم، معظمها قائمة على تقسيمات مذهبية. صحيح أنّ الولي الفقيه لم يكن يسعى إلى تقسيم هذه المنطقة في الأساس، فهو حسب أدبيات مشروعه، يسعى إلى توحيدها تحت لوائه كهدف عقائدي موثق. لكن سعيه المحمود، حميداً كان أم ممقوتاً، أدّى إلى إثارة مخاوف محيطه العربي، وبالتالي فإنّ فعل مقاومة مشروعه أدّى إلى اندفاع مشاريع أخرى موجودة سلفاً في الأدراج الدولية، خصوصا بعد تفلّت الوحش الإرهابي بنحو مبرمج على مدى السنوات القليلة الماضية.

 

وهنا يكون الولي الفقيه حقّق عن غير قصد جزءاً كبيراً من حلم إسرائيل لتتقسّم المنطقة إلى كيانات تشبهها.

 

ـ ثانياً، من الناحية الإجتماعية، وحول المزاج السياسي، فقد تمكن الغزو الإيراني القومي الخلفية، ولكن تحت شعارات مذهبية، من توجيه المزاج العربي العام من أولوية العداء مع إسرائيل إلى أولوية الدفاع عن النفس، بعد أن أصبح الغزو في عقر دار معظم كياناتهم في المنطقة. وبالتالي فقد أصبح صدّ الغزو المذهبي الفارسي ودرء خطره الداهم، أهم بكثير من الصمود في وجه مشروع صهيوني استراتيجي، ولكن مزمناً في طبعه. وهنا ليس علينا أن نستغرب، وإن استهجنا لخلفيات بعضنا النضالية ضد إسرائيل، ذهاب بعض البراغماتيين إلى السعي لتحالف الضرورة مع عدو يشكّل خطراً أصبح ثانوياً بالنسبة الى عدو خطره داهم. هذا لا يعني بالطبع أنّ تلك المنظومات التي لا تشبه لا الأمم ولا الدول بشيء، كانت تعدّ العدّة أصلًا لمحاربة إسرائيل. فكل تلك الأنظمة، ممانعة كانت أم خانعة، تصرّفت وتتصرّف على أساس أن يبقى القائد في الحكم، أمّا أي موضوع آخر فهو قابل للمساومة والبيع والشراء. ولو راجعنا تاريخ هذه الأنظمة من إيران الخميني ومن بعده، إلى صدام حسين، إلى حافظ وبشار، إلى الملوك الهاشميين، إلى ممالك الخليج، وحتى مصر بمختلف الأنظمة التي تعاقبت عليها، يمكن أن نتأكّد أنّ مسألة فلسطين لم تكن أولوية في أي مرحلة منذ عام 1948.

 

ـ ثالثاً، وهو الجزء العصي على الفهم، إلّا إذا درسنا خلفية الفلسفة الحاخامية اليهودية في الحاجة إلى العداء مع الآخر لتأمين التماسك الداخلي، وهي أمور تختلط فيها المسائل الدينية مع الإجتماعية والسياسية، وهو ما يسمّيه بعض القادة الصهاينة بمجتمع «اسبارطة». وهذا يعني الحاجة الى وجود عدو يحوط بالسور المحصّن لتأمين التماسك الداخلي. يعني، أنّ الخطابات العنترية خارج أسوار الكيان الصهيوني هي ما تحتاجه إسرائيل، على شاكلة ما يحدث دورياً عندنا، عن طريق وكيل الولي الفقيه في لبنان، وما كان يحدث على يد قادة كيانات حليفة اليوم لإيران. وبالتالي، فإنّ إيران في حاجة الى شخصيات مثل بنيامين نتنياهو والسيئ الذكر، ليطلقوا التهديدات تجاهها. وقضية «صفقة القرن» تعلم إسرائيل علم اليقين أنّها لن تكون مقبولة ولا قابلة للحياة، مثلها مثل الحلول الخنفشارية الأخرى على شاكلة حل الدولتين. وقد يكون نتنياهو قَبل بها لمجرد تحميل ترامب جميل القبول! ولكن، كالعادة، سيتحجج قادة إسرائيل برفض الآخرين للحل، بحجة عدم وجود شريك! وبالتالي ترك مسألة فلسطين والفلسطينيين بلا حل إلى أن يحلّها التاريخ بنحوٍ ما!

 

لكن المؤكّد، هو أنّ دخول إيران على خط فلسطين لم يزد الأمور إلّا تعقيدًا، من خلال العداء المعلن ضد العرب وسعي هؤلاء للحفاظ على الذات، أو من خلال فرض الانقسام الفلسطيني وتأجيجه بدعمها حكومة «حماس». لكن الرابح دائمًا كان العدو، بغض النظر عن النيات الإيرانية، اكانت حسنة أم خبيثة!