استعرض الكاتب البريطاني، ديفيد هيرست، في مقال نشره موقع "ميدل إيست آي"، ما اعتبر أنه "الأخطر" في خطة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لـ"السلام" في الشرق الأوسط، أو ما يعرف بـ"صفقة القرن" لحل القضية الفلسطينية.
 
وأوضح "هيرست" أن الاحتلال الإسرائيلي، في سعيه إلى دولة على كامل تراب فلسطين التاريخية، من البحر إلى النهر، يواجه حقيقة مفادها أن عدد الفلسطينيين يفوق عدد اليهود على تلك الأرض، عدا عن المهجرين منها.
 
ويرى الكاتب البريطاني أن الأخطر في صفقة ترامب، هو ما يتعلق تحديدا بهذه الجزئية، وذلك من خلال التأسيس لنكبة جديدة، يتم من خلالها إنهاء وجود الفلسطينيين في بعض المناطق، ولا سيما في ما يعرف بـ"المثلث" في أراضي 1948.
 
واعتبر "هيرست" أن "هذه هي المرة الأولى منذ عام 1948 التي يتسنى فيها لجميع الفلسطينيين أن يلموا شعثهم ويوحدوا صفوفهم"، مشددا على ضرورة "أن يغتنموا الفرصة، وإلا أصبحوا نسيا منسيا".

وأوضح أن موجة جديدة من النضال يجب أن تنطلق لأجل حقوق متساوية في دولة واحدة، تقام على كامل تراب فلسطين التاريخية.

أضاف أن ذلك سيتطلب "قتالا شرسا، ولا يجدر بأحد أن يستخف بما يمكن أن يحدث لو انتفض الشعب الفلسطيني من جديد. ولكن لا ينبغي لأحد أن تساوره شكوك إزاء ما يمكن أن يخلفه الإذعان والرضوخ".
لا مفر الآن من أن تبدأ موجة جديدة من النضال من أجل الحقوق المتساوية في دولة واحدة على أرض فلسطين التاريخية.
 
ما لبثت مصيدة الفيلة تتربص لسنوات في طريق الخطط المهدوية لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لإقامة دولة إسرائيل ما بين النهر والبحر.
 
كانت تلك هي الحقيقة الديمغرافية التي تؤكد أن ذلك الحيز يفوق فيه عدد الفلسطينيين عدد اليهود. فبحسب أرقام عام 2016، التي أصدرها مكتب الإحصاءات الإسرائيلي وقُدمت للجنة العلاقات الخارجية والدفاع في الكنيست الإسرائيلي، يعيش ما بين نهر الأردن والبحر المتوسط 6.5 مليون مسلم مقابل 6.44 مليون يهودي، مع الأخذ بالاعتبار أن هذه الأرقام باتت الآن قديمة. أشارت اللجنة في تقريرها إلى المسلمين بدلاً من الفلسطينيين مستبعدة بذلك المسيحيين منهم.
 
يعني ذلك أن خطة الضم التي ينفذها نتنياهو لن تجدي نفعاً وحدها، وأن البنية التحتية الخرسانية الهائلة التي عززت إسرائيل بواسطتها احتلالها للضفة الغربية – بما في ذلك المستوطنات والجدران والطرق والأنفاق – ودولتها القائمة على الفصل العنصري بكل ما تمارسه من قسوة وتوحش واستنساخها بالكامل كل ما كان قد صنعه نظام الأبارتايد في جنوب أفريقيا، ما هي سوى مسكنات – عقاقير تخفض آلام دولة الأغلبية اليهودية ولكنها لا تقضي على العلة.
 
نكبة أخرى
 
بإمكانك أن تعلن عدد المرات التي تحب، كما فعل بالأمس الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، أن إسرائيل ستستولي على غور الأردن وبذلك ستستولي على ثلاثين بالمائة من الضفة الغربية، وتفرض القانون الإسرائيلي على المستوطنات. ولكن دون القيام فعلياً بنقل أعداد أكبر وأكبر من الفلسطينيين إلى خارج دولة إسرائيل الموسعة فلن يتغير الكثير، وسيصبح الضم شكلاً آخر من أشكال الاحتلال.
 
ولذلك فإن ترحيل السكان، الترحيل الجماعي للسكان، الذي يشكل فعلياً نكبة أخرى، يقع في القلب من رؤية ترامب ونتنياهو للسلام.
 
إنه نمط غريب من السلام، إنه الصمت الذي كنت تسمعه في القرى الفلسطينية في 1948، وفي بيت حانون في 2014، عندما قصفت إسرائيل مدرسة تابعة للأمم المتحدة في شمال غزة بينما كانت تزدحم بمئات المدنيين المشردين فقتلت خمسة عشر منهم وجرحت مائتين، أو في شرق حلب أو في الموصل، بعد تعرض هذه المناطق لقصف لم يبق منها ولم يذر. إنه السلام الذي تمخضت عنه الهزيمة التامة لنضال الفلسطينيين من أجل إقامة دولة خاصة بهم على أرض وطنهم.
 
الخطة الخفية
 
إذن، بالنسبة لي، لا أرى أن صميم الرؤية المنذرة بنهاية العالم يتمثل في الخطابات العنصرية لترامب أو نتنياهو، والتي أعلن كلاهما من خلالها أن "المهمة قد أنجزت" وأن النصر المؤزر قد تحقق للحركة الصهيونية على الشعب الفلسطيني. وإنما يقع في فقرة مدفونة في طيات الوثيقة المكونة من مائة وثمانين صفحة، تلك الوثيقة التي تفاخر ترامب بأنها الوثيقة الأكثر تفصيلاً في كل ما صدر حتى الآن حول الصراع. نعم، بالضبط.
 
إنها الفقرة التي تقول إن تبادل الأراضي من قبل إسرائيل يمكن أن يشمل "المناطق المأهولة وغير المأهولة بالسكان" على حد سواء. تتحدث الوثيقة بدقة عن السكان الذين تشير إليهم – إنهم السكان الفلسطينيون في مناطق 1948، في ما يعرف بالمثلث الشمالي في إسرائيل – كفر قارة، باقة الغربية، أم الفحم، قلنسوة، الطيبة، كفر قاسم، الطيرة، كفر بارة والجلجولية.
 
تمضي الوثيقة لتقول: "يمكن بحسب هذه الرؤية، شريطة أن تتفق الأطراف على ذلك، إعادة رسم حدود إسرائيل بحيث يصبح سكان المثلث جزءاً من الدولة الفلسطينية. وستكون الحقوق المدنية لسكان المثلث بحسب هذه الاتفاقية خاضعة للقوانين والأحكام القضائية المعمول بها من قبل السلطات المعنية".
 
هذا هو الجانب الخفي والأخطر في هذه الخطة. ففي المثلث يعيش ما يقرب من ثلاثمائة وخمسين ألف فلسطيني – وهؤلاء جميعاً مواطنون إسرائيليون – يجثمون بجانب الحد الشمالي الغربي للضفة الغربية. يذكر أن أم الفحم، المدينة الرئيسية في المثلث، هي مقر بعض أنشط المدافعين عن المسجد الأقصى.
 
قال لي يوسف جبارين، عضو الكنيست الإسرائيلي من القائمة المشتركة: "أم الفحم بلدتي، ووادي عاره شريان حياتي. إن المثلث موطن مئات الآلاف من المواطنين العرب الفلسطينيين الذين يعيشون داخل وطنهم. ما يتحدث عنه ترامب ونتنياهو من برنامج ضم وترحيل من شأنه أن يقلعنا من وطننا وينزع منا حق المواطنة، وذلك يمثل خطراً وجودياً يتهدد المواطنين من الأقلية العربية. هذا هو الوقت الذي ينبغي فيه على اليهود والعرب الذين يؤمنون بقيمة الديمقراطية والمساواة أن يقفوا ويعملوا معاً ضد هذه الخطة الخطيرة".
 
"تطهير عرقي" رسمي
 
لطالما طرح القادة الإسرائيليون من الوسط واليمين ولسنين متعاقبة فكرة "الترحيل الهادئ" للسكان إلى خارج إسرائيل، وكان قد أشار إلى فكرة تبادل السكان والأراضي رؤساء وزراء سابقون مثل إيهود باراك وآرييل شارون. إلا أن أفيغدور ليبرمان هو الذي تبنى باستمرار قضية طرد الفلسطينيين وحمل لواء المطالبة بها دون كلل أو ملل.
 
طالب ليبرمان بنزع الجنسية الإسرائيلية عن ثلاثمائة وخمسين ألف فلسطيني ممن يعيشون في المثلث وبإجبار العشرين بالمائة الآخرين من الإسرائيليين غير اليهود على أن يؤدوا "قسم الولاء" لإسرائيل باعتبارها "دولة صهيونية يهودية"، وإذا لم يقبلوا بذلك فسيتعرضون للترحيل إلى الدولة الفلسطينية.
 
وقبل عامين اقترح نتنياهو على ترامب أن تتخلص إسرائيل من المثلث، وها قد جاء اليوم الذي تصبح فيه خطط التطهير العرقي جزءاً من وثيقة رسمية صادرة عن البيت الأبيض.
 
وكما غرد العضو الفلسطيني في الكنيست، أيمن عودة، فقد كان إعلان ترامب بمثابة "ضوء أخضر لنزع الجنسية عن آلاف المواطنين العرب الفلسطينيين الذين يعيشون في شمال إسرائيل".
 
تأييد ترامب
 
كان مثيراً وجديراً بالانتباه حضور سفراء كل من الإمارات والبحرين وعمان حفل الإعلان عن صفقة القرن في البيت الأبيض يوم الثلاثاء. لم تتأخر المملكة العربية السعودية ومصر والإمارات عن إعلان ترحيبها بالإعلان دون تحفظ. وكذا فعلت قطر أيضاً مع أنها أضافت أنه ينبغي أن يتم التفاوض على الدولة الفلسطينية ضمن حدود 1967 وأنه ينبغي أن يحتفظ الفلسطينيون بحق العودة.
 
وقال ترامب إنه اندهش لعدد المكالمات التي تلقاها من زعماء العالم يعربون فيها عن تأييدهم لخطته، ومن هؤلاء رئيس وزرائنا في بريطانيا بوريس جونسون.
 
وبذلك يكون بوريس جونسون قد رمى في سلة المهملات سياسة خارجية بريطانية ظلت على مدى عقود تتمسك بحل الدولتين على أسس من القسط والعدالة ليلقي بكامل ثقله خلف خطة ترامب. كما أصدر وزير الخارجية البريطاني دومينيك رآب بياناً قال فيه إنهم "يرحبون" بالصفقة مضيفاً أنه "من الواضح أن هذا مقترح جاد يعكس ما أنفق في إعداده من وقت ومن جهد".

وإزاء ذلك تفاخر ترامب بالقول: "لا أصدق حجم التأييد الذي جاء هذا الصباح. لقد اتصل بي عدد من الزعماء، اتصل بوريس (جونسون)، واتصل كثيرون، وكلهم يقولون سنساعد بكل ما نستطيع".
 
إلا أن هناك منهم من أدرك الخطر الكامن في هذه الخطة، ومن هؤلاء عضو مجلس الشيوخ كريس ميرفي الذي غرد قائلاً: "من شأن الضم المنفرد لوادي نهر الأردن والمستوطنات القائمة، والتي طالما اعتبرت في القانون الأمريكي وفي القانون الدولي غير قانونية، أن يعيد عملية السلام عقوداً إلى الوراء، وسيهدد ذلك بتفجير العنف وإحداث حالة من عدم الاستقرار في أماكن مثل الأردن".
 
وحده في البيت
 
لا ينبغي لأحد أن يستخف بالطبيعة التاريخية لما تم الإعلان عنه، فلقد مات حل الدولتين أو ماتت الفكرة التي تقول بإمكانية قيام دولة فلسطينية متلاصقة وقابلة للعيش  إلى جانب دولة ذات أغلبية يهودية. بل لقد ماتت قبل فترة طويلة من إبرام اتفاقيات أوسلو.
 
أحيط صناع السلام العرب مثل عاهل الأردن السابق الملك حسين علماً وبشكل واضح لا لبس فيه بأن الدولة الفلسطينية المستقلة لن ترى النور، أخبرهم بذلك السوفيات على لسان ييفغيني بريماكوف كما أخبرهم به وزير الخارجية الأمريكي جيمز بيكر. وكان ذلك حتى قبل مؤتمر مدريد الذي كان بدوره سابقاً على أوسلو. لم يكن الملك بحاجة لحضور جنازة صديقه إسحاق رابين، الذي اغتيل في عام 1995 حتى يدرك ذلك، فقد كان يعلم به يقيناً. على كل حال، لقد ماتت الآن بشكل نهائي.
 
والآن، منحت الولايات المتحدة موافقتها الرسمية على حدود دولة إسرائيل الشرقية، وتعبر عن ذلك بشكل تام الخارطة التي نشرها موقع ميدل إيست آي. تشبه الدولة الفلسطينية التي تتصورها الخطة صورة الأشعة التي تلتقط لدماغ شخص مصاب بمرض ألزهايمر، فقد تآكلت تماماً الدولة الفلسطينية.
 
إن الرسالة التي توجهها هذا الخارطة للفلسطينيين بغض النظر عن الفصيل الذي ينتمون إليه واضحة وضوح الشمس في رابعة النهار. تناسوا خلافاتكم، تناسوا ما جرى بين فتح وحماس في غزة في عام 2007، نحوا جانباً كل المزاعم والاتهامات حول من انقلب على من، وتوحدوا. وحدوا صفوفكم في مواجهة خطر يهدد وجودكم.
 
بات الفلسطينيون بحق وحيدين، ولم يبق من مقومات موقفهم التفاوضي شيء، ليس لديهم القدس، وليس لديهم حق العودة، وليس لديهم عودة اللاجئين، وليس لديهم مرتفعات الجولان، والآن لم يعد لديهم حتى وادي الأردن. ليس لديهم حلفاء عرب، فسوريا محطمة والعراق مقسم ومصر والسعودية دمى في يد إسرائيل. لقد فقد الفلسطينيون دعم البلدان العربية الأكبر سكاناً كما فقدوا دعم البلدان العربية الأكثر ثراءً.
 
لم يعد لديهم مكان يهربون إليه أو يلوذون به، فأوروبا أبوابها مؤصدة في وجه أي هجرة جماعية في المستقبل. ليس لديهم سوى خيار واحد: البقاء والقتال. إن بإمكان الفلسطينيين لو توحدوا أن يحبطوا كل خطط إسرائيل العنصرية ويحولوا دون قيام أي تطهير عرقي. لقد فعلوا ذلك من قبل وبإمكانهم أن يفعلوه تارة أخرى.
 
نضال جديد
 
على الفلسطينيين الآن مواجهة هذا الواقع. لقد أدى اعتراف منظمة التحرير الفلسطينية بإسرائيل عام 1993 بهم إلى طريق مسدود، وكان محتماً أن يقود ذلك الاعتراف إلى تلك النهاية. وما كانت الولايات المتحدة ولا القانون الدولي ولا قرارات الأمم المتحدة لتنصرهم أو تنجدهم. ولذلك، قد يجد الفلسطينيون في خطة ترامب القاسية خلاصاً لهم، فهي التي بددت عقوداً من الوهم والخيال.
 
ما ينبغي أن يبدأ الآن هو موجة جديدة من النضال من أجل حقوق متساوية في دولة واحدة تقام على كامل تراب فلسطين التاريخية. سيتطلب ذلك قتالاً شرساً، ولا يجدر بأحد أن يستخف بما يمكن أن يحدث لو انتفض الشعب الفلسطيني من جديد. ولكن لا ينبغي لأحد أن تساوره شكوك إزاء ما يمكن أن يخلفه الإذعان والرضوخ.
 
هذه هي المرة الأولى منذ عام 1948 التي يتسنى فيها لجميع الفلسطينيين أن يلموا شعثهم ويوحدوا صفوفهم. عليهم أن يغتنموا الفرصة، وإلا أصبحوا نسياً منسياً.