نشر موقع مجلة "فورين أفيرز" مقالا للزميل في المعهد الملكي للشؤون الدولية (تشاتام هاوس) ريناد منصور، يحذر فيه من أثر الغارات الأمريكية في العراق على السياسة العراقية، قائلا إن اغتيال قاسم سليماني يضعف من الدفع باتجاه الإصلاح الديمقراطي في البلاد.
 
 
ويقول منصور في مقاله، الذي ترجمته "عربي21"، إن "اغتيال سليماني في 3 كانون الثاني/ يناير الحالي في بغداد، مع زعيم المليشيا أبي مهدي المهندس كاد أن يدفع لمواجهة عسكرية بين إيران والولايات المتحدة، لكن احتمال نشوب الحرب قد تضاءل بعد الغارات الصاروخية التي شنها الحرس الثوري الإيراني على قاعدتين عسكريتين في العراق". 
 
 
ويشير الكاتب إلى أنه "بدلا من ذلك، فإن العراق هو الذي بات يشعر بتداعيات الغارة الأمريكية التي تهدد بتقويض السياسة المحلية، وقبل الصاروخ الذي أدى إلى قتل سليماني كانت المؤسسة السياسية العراقية تواجه أكبر تحد سياسي لها: تظاهرات مستمرة منذ 3 أشهر تطالب بتغيير النظام السياسي، وشجب فيها المشاركون، ومعظمهم من الشباب، الفساد والتدخل الأجنبي في الشؤون الداخلية العراقية، خاصة التدخل الإيراني، إلا أن عملية القتل قدمت لعدد من القادة الشيعة في العراق فرصة لإثارة المشاعر المعادية لأمريكا، في محاولة لتشويه الحراك الشعبي وحرف الانتباه عن فشل النخبة السياسية العراقية". 
 
 
ويلفت منصور إلى أن "المتظاهرين يدركون هذا التحول، ففي الوقت الذي هتف فيه عدد من المتظاهرين ضد سليماني وأبي مهدي المهندس، اللذين اتهما بممارسة العنف والقمع ضدهم، فإن موقفهم هذا سيجعل البعض يصنفهم أنهم مع الولايات المتحدة، ونقل عن المحتجين في بغداد قولهم إنهم ليسوا مع الولايات المتحدة أو مع إيران، ويريدون أن يتوقف البلدان عن التدخل في شؤونهم الداخلية، ولم يحرك المتظاهرون ساكنا حتى عندما حاول بعض القادة العراقيين التنديد بالولايات المتحدة لاستعادة شعبيتهم". 
 
 
ويؤكد الباحث أن "مقتل سليماني سيجعل الحياة صعبة بالنسبة للمتظاهرين، فقد جلبت الغارات الأمريكية الفصائل الشيعية المتنافسة معا، وترى إيران أهمية في الحفاظ على تأثيرها في العراق؛ لأن الأحداث الأخيرة قدمت لها فرصة لتجاوز المقاومة الأولية لدورها من أجل موضعة نفسها لرد طويل الأمد ضد الولايات المتحدة".
 
 
ويجد منصور أن "الغارة التي قتلت سليماني كشفت عن واقع جديد في السياسة العراقية، فقد صدمت الاحتجاجات النخبة السياسية التي ظهرت بعد الإطاحة بنظام صدام حسين، فكانت هذه النخبة تستخدم المشاعر المعادية لأمريكا في وقت الأزمات وللحفاظ على مواقعها، ولم يعد هذا الخطاب عملة مقبولة، وبالتالي سيلجأ القادة العراقيون إلى العنف والإكراه للدفاع عن سلطتهم".
 
 
ويقول الكاتب إن "التأثير الأكبر للغارة الأمريكية كان على البرلمان العراقي، ففي نهاية عام 2019 كان البرلمان منقسما وميدانا للقتال المستمر، وظهرت فيه كتلتان في مرحلة ما بعد انتخابات 2018: الأولى بقيادة مقتدى الصدر اسمها الإصلاح، والثانية تحالف بقيادة هادي العامري اسمه البناء، وفي كل كتلة جماعات سنية وشيعية، ويتناقض عدم التجانس في شكل هذه الكتل مع شكل السياسة العراقية في أول انتخابات عام 2005، وهي الأولى بعد سقوط صدام حسين، وِشاركت فيها كتلة شيعية وأخرى سنية وثالثة كردية ورابعة علمانية بالاسم شارك فيها عدد من القادة السنة، ورغم التنافس عالي الصوت بين كتلة الإصلاح والبناء إلا أن الكثير من المحللين شعروا بأن العراق يتحول عن السياسة الطائفية الإثنية". 
 
 
وينوه منصور إلى أن "الصراع أدى إلى شل البرلمان، حيث لم تكن أي من الكتلتين قادرة على تأمين الغالبية لتمرير سياساتها، ما هدد العملية السياسية، وعندما أعلن رئيس الوزراء عادل عبد المهدي استقالته نهاية تشرين الثاني/ نوفمبر لم يتفق البرلمان على تسمية خليفة له، وحتى سليماني المعروف بقدرته على جمع القيادات العراقية المختلفة لم يكن قادرا على حل المأزق".  
 
 
ويستدرك الباحث بأن "مقتل سليماني والمهندس هدد بإعادة تشكيل المشهد السياسي وبجرة قلم، وبعد فترة قصيرة من الهجوم الأمريكي عقد البرلمان العراقي جلسة طارئة للتصويت على بقاء القوات الأمريكية في العراق، وقرر تيار البناء والإصلاح تنحية خلافاتهما جانبا واتحدا تحت شعار معاداة أمريكا، وبالنسبة للصدر والعامري وبقية القيادات العراقية فقد تحولت الأولوية وفي ليلة وضحاها للتركيز على إخراج الأمريكيين، وقاطعت أحزاب السنة والأكراد، التي كان بعضها إما في كتلة البناء أو الإصلاح، التصويت، وتذكر هذه الحادثة والانقسام الطائفي بالأيام الأولى التي انقسم فيها المشهد السياسي بناء على الخطوط الطائفية والعرقية". 
 
 
ويفيد منصور بأن "عملية القتل أدت إلى إحياء السياسة المعادية لأمريكا، فتجمع قادة الشيعة معا لتوحيد قاعدتهم، وأعاد الصدر الذي هرب إلى إيران أثناء الاحتجاجات تأكيد نفسه بعد هذه الحادثة، وبعد عملية القتل دعا كوادره للتجمع وقتال الأمريكيين، وشعر الصدر بأن هناك فرصة سياسية، فحول اهتمامه من محاربة الفساد -وهو الموقف الذي أجبر على تبنيه بعد تزايد الاحتجاجات- إلى موقفه المعروف وهو معاداة أمريكا، في محاولة لتعبئة شيعة العراق حوله، وفي 24 كانون الثاني/ يناير نظم أكبر احتجاج ضد أمريكا في بغداد، ودعم بعض أعداء الصدر ومن انشقوا عنه، مثل قيس الخزعلي، هذا التجمع". 
 
 
ويشير الكاتب إلى أن "الصدر اقترب من العامري، وناقش القياديان إمكانية إعادة ترشيح عبد المهدي رئيسا للوزراء، وفي نظر الكثير من العراقيين الذين يحتجون ضد الحكومة العراقية في السنوات الماضية فإن محاولة توحيد القاعدة الشيعية تعد تعزيزا للنظام الفاسد، وقال أحد المتظاهرين لوكالة رويترز: (هذه المسيرة تختلف عما يريده الشارع) في إشارة لمسيرة الصدر وهي (تدعم النظام السياسي الحالي في البلد ولا تعارضه)". 
 
 
ويبين منصور أن "الاحتجاجات ضد القيادة السياسية في العراق تختلف اليوم عن تلك التي سبقتها في العقد الماضي، وبحسب دراسة مسحية أعدتها مبادرة (تشاتام هاوس) للعراق، فإن احتجاجات اليوم هي شبابية لأن معظمهم لا يعمل في وظيفة كاملة وليست لديه عائلة، وليس لديهم ما يخسرونه، وهم مستعدون لاحتلال الساحات والممرات العامة وساحة التحرير، التي أصبحت مركز الحركة، ومطالبهم جذرية فبدلا من المطالبة بالتغيير التدريجي يحاول متظاهرو اليوم إنهاء النظام السياسي القائم على البعد الإثني الطائفي، وهم يرفضون الطائفية الإثنية، ويشجبون التدخل الإيراني في بلدهم، وبحسب الدراسة فقد كان المطلب الوحيد هو وطن ذو سيادة، وكان أهم الهتافات في المسيرات والتظاهرات هو (إيران برة برة)". 
 
 
ويلفت الباحث إلى أن "استمرار التظاهرات أدى إلى استقالة عبد المهدي في نهاية تشرين الثاني/ نوفمبر، إلا أن رد الحكومة لم يرض المتظاهرين أو يشوه حركتهم، ولهذا السبب زادت الحكومة من حملات العنف والاستفزاز والاعتقالات والاغتيالات التي خلفت أكثر من 600 قتيل".
 
 
وينوه منصور إلى أن "المتظاهرين في ميدان التحرير يزعمون أن العامل الأساسي في العنف هو المليشيات الشيعية المرتبطة بالحشد الشعبي الذي تدعمه إيران، الذي تم تشكيله عام 2014 ردا على سيطرة تنظيم الدولة على مناطق واسعة في العراق، وأدت هذه الوحدات دورا لدرجة أن الكثيرين اعتقدوا أنه لولا وجود الحشد لربما سقطت بغداد في يد التنظيم". 
 
 
ويفيد الكاتب بأن "المهندس كان القائد الفعلي للحشد، وساعد على تحويله من مجموعات غامضة ومشبوهة إلى منظمة حرفية قوية، وتحت قيادته تمتع الحشد بعلاقة وثيقة مع الحكومة، وبقدر من الاستقلالية عنها، وحظي الحشد أثناء القتال ضد تنظيم الدولة بدعم شيعة العراق".
 
 
ويشير منصور إلى أن "استطلاعا نظم عام 2016 أظهر أن نسبة 99% من الشيعة تدعم مليشيات الحشد، لكن شعبيته خفتت بسبب تورطه في قمع حركة الاحتجاج عام 2019 ودخول قياداته في السياسة، واليوم يشجب الكثير من العراقيين الحشد، ويدينون أنصار المليشيات الإيرانية". 
 
 
ويلفت الباحث إلى أن "المهندس والحشد الشعبي واجها في نهاية عام 2019 أزمة شرعية، ولم يعد دورهما بصفتهما حماة للعراق مقنعا لأحد، وحاول الحشد استخدام مقتل المهندس وسليماني من أجل استعادة الدعم وتعبئة الكثير من العراقيين لدعم مواقفه، وسمحت الغارة الأمريكية لقيادات الحشد الباقين بتحويل السخط ضد الجماعات المنخرطة فيه والمتهمة بمعاملة المتظاهرين بطريقة سيئة، إلى غضب ضد الأمريكيين". 
 
 
ويقول منصور إن "المحتجين لم يكونوا يحبون لا المهندس أو سليماني، لكنهم شجبوا القتل بسبب مخاوفهم من انعكاساته على حركتهم، وفي 10 كانون الثاني/ يناير هتف المتظاهرون في الجنوب وبغداد، قائلين: (لا لأمريكا لا لإيران)". 
 
 
ويستدرك الكاتب بأن "الصدر لم يكن قادرا على تحويل غضب الناس ضد الأمريكيين، ودعا في 24 كانون الثاني/ يناير أنصاره إلى مغادرة أماكن الاحتجاج في بغداد، وتزامن قراره مع مهاجمة قوات الأمن لخيام المعتصمين، ما أدى إلى قتل أربعة وجرح 13 شخصا، إلا أن الكثيرين من أنصاره رفضوا المغادرة، وأشاروا إلى أنه تخلى عنهم، وقال أحد الصدريين رفض ترك الاعتصام: (كيف يمكننا التخلي عن إخواننا؟ بعدما اعتصمنا معا منذ 4 أشهر)، وأمر زعماء صدريون، مثل أسعد الناصري، أتباعهم بالبقاء في معسكرات الاعتصام ومواصلة الثورة، وفي الوقت الذي تقارب فيه الصدر مع عدد من القادة الشيعية وأصبح لطيفا مع إيران إلا أنه بدأ في خسارة الشارع". 
 
 
ويختم منصور مقاله بالقول إن "العراق لم يعد كما كان بعد الغزو الأمريكي للعراق عام 2003، ولم يعد باستطاعة القادة العراقيين العودة إلى السياسة الطائفية الإثنية ومعاداة أمريكا لتعبئة الشارع، وحتى في ظل الغارة الأمريكية أظهر المتظاهرون أنهم يريدون طريقا آخر يتجنب تدخل الجهات الخارجية ويعيد السيادة إلى العراقيين، بالإضافة إلى إنهاء النظام السياسي الذي نشأ في مرحلة ما بعد 2003، ومع فشل الأداة الخطابية التقليدية فستلجأ القيادة العراقية إلى العنف لإخراج المتظاهرين من الساحات وسحق الانتفاضة التي هزت النخبة السياسية وضربتها في العمق".