في ظل النقاش المفتوح حول موازنة 2020 وما يرافقه من جدل حول ظروف البتّ بها من النواحي القانونية والدستورية ودور الحكومة الجديدة وصلاحياتها، هناك من بين الخبراء من ينصح بوقف النقاش في شكلها والمضمون، توفيراً لجهد يُبذل في مكان أكثر افادة. فما حصل في مجلس النواب بات أمراً واقعاً والنقاش فيه كما في القانون، كـ «الضرب في الميت حرام». لماذا وكيف؟
 

قيل وسيُقال الكثير في موازنة 2020 التي تحولت منذ الإثنين الفائت قانوناً ينتظر توقيع رئيس المجلس النيابي ومن بعده وزير المال ورئيس الحكومة فرئيس الجمهورية، لتكتمل مواصفاته القانونية والدستورية قبل نشره في الجريدة الرسمية. ولم تكن مصادفة، بل سابقة، ان يُقال في الموازنة الجديدة ما قاله معدّوها والمعارضون ومعهم المتفرجون من اصحاب اللارأي، ما لم يقله احد تهشيماً في شكلها ومضمونها وأرقامها الوهمية، وصولاً الى اعتبارها موازنة مارقة وكاذبة، لا تحتوي على توقعات منطقية وفقدان الأرقام التي يمكن ان تتحقق.

 

وبعيداً من كل اشكال الملاحظات التي قيلت فيها، يبدو ظاهراً للعيان انّ هناك إجماعاً لا سابق له، على اعتبار انّ ما إحتوته هذه الموازنة - التي أُقرّت في ساعات قليلة وفي غفلة من الحراك المنتفض من حولهاـ من ارقام وهمية وغير دقيقة لواردات الخزينة العامة، وقصوراً في امكان جباية ما هو متوقع من مردود الرسوم والضرائب المباشرة وغير المباشرة، عدا عن التقدير الخاطئ لنسبة العجز، بعد التمادي في سوء تقديره، في مجموعة الموازنات التي وُضعت منذ العودة الى انتظامها سنوياً عام 2017 بعد 12 عاماً على فقدانها.

 

والى هذه المواصفات السلبية التي اجمع عليها المسؤولون اللبنانيون، فانّ بعض الوعود البرّاقة فيها لا يمكن الركون اليها في ظل التطورات السلبية المتلاحقة الناجمة عن الأزمة النقدية وفقدان السيولة بالعملات الأجنبية منذ اشهر عدة الى اليوم، والتي يمكن ان تستمر لفترة غير محدّدة بدقة. وطالما انّ الحكومة لم تنجح الى الآن في تجاوز هذه الأزمة، فإنّها مرشحة لأن تطول في ظل غياب كل أشكال الدعم العربي والغربي، والذي بات مشروطاً بسلسلة من الإجراءات التي على الحكومة القيام بها، وهو امر لا يمكن التثبت من حصوله قبل اشهر قليلة على تسلّم الحكومة الجديدة مهماتها.

 

وعلى هذه الخلفيات، تنمو المخاوف مما قد يصيب ما هو متوقع من ارقام في هذه الموازنة. فهي لم تلحظ التراجع الهائل في نسبة الإستيراد التي كانت في حدود الـ20 مليار دولار، والتي لا يمكن ان تتجاوز بحسب التقديرات الحالية 8 او 9 مليارات، اذا نجح مصرف لبنان في توسيع مروحة توفير «الدولار المدعوم» لقطاعات حيوية، بدأت ترفع الصوت، كمثل بعض الصناعات الوطنية ومستوردي الأدوات والمستلزمات الطبية وغيرها من القطاعات الحيوية، والتي تتجاوز ما تقرّر حتى الآن من دعم تمّ توفيره لشراء حاجة السوق من القمح والطحين والمحروقات على انواعها والأدوية.

 

ولا تتجاهل المخاوف عند تناولها الأخطاء المرتكبة في الموازنة التي أُقرّت، انّها وضعت سقوفاً مغلقة لحجم الإستثمارات التي يمكن ان تنمّي الإقتصاد، فاقتصرت على مصاريف الدولة من رواتب واجور وما هو مطلوب لدفع كلفة الدين العام، سعياً الى ما سُمّي عند اعداد الموازنة بـ «صفر وهمي» للعجز.

 

وكل ذلك جرى في وقت يتوقع الخبراء الإقتصاديون أنّه سيكون كبيراً جداً ما لم تنجح الحكومة في تصحيح الأخطاء المرتكبة فيها، والتعويض عمّا هو مقدّر من واردات وهمية نتيجة الإنخفاض المتوقع في حجم الرسوم الجمركية وبعض الرسوم المتوقعة في مجالات مالية، ليس اخطرها ما سيؤدي الى خفض مردود قيمة الرسوم المفروضة على فوائد الإيداعات المصرفية.

 

وعليه، وبالنظر الى طريقة مواجهة كل هذه الملاحظات السلبية، يُبنى كثيراً مما يمكن ان تحققه الحكومة الجديدة من موارد اضافية غير محسوبة بدقة، ان نجحت في تنفيذ الوعد الذي قطعه رئيسها في جلسة إقرار الموازنة، لجهة استعداد الحكومة للتقدّم بمشاريع قوانين لتعديل بعض ما أُقرّ في هذه الموازنة من بنود تجاوزتها التطورات الإقتصادية والمالية، لتتلاءم والظروف التي استجدت في ظل الأزمة التي تعيشها البلاد. فرغم ما هو مُنتظر من تعديلات، فانّه لن يكون سهلاً ان توفّر وزارة المال ما تحتاجه خارج ما هو مطلوب في بعض القطاعات، لإيفاء ديون سابقة من المال العام مرّت عليها سنوات، هي حق من حقوق قطاع المستشفيات الحكومية والخاصة وشركات المقاولات، التي استحقت لها المليارات حتى تاريخ تشكيل هذه الحكومة، وهي ارقام سترفع من نسبة العجز المتوقع الى حدود لا يمكن تقديرها من اليوم.

 

والى ما سبق من ملاحظات، لا يتجاهل هؤلاء الخبراء اهمية ان تضع الحكومة حداً للإعفاءات الضريبية، التي توفر بوابة للهروب مما هو مطلوب من الشركات الكبرى، في وقت ينصح البعض بضرورة اللجوء الى تعديلات تضع حداً نهائياً للتلاعب بالضرائب عند تحديد سقف أعلى لها، ضماناً لما يُسمّى الإستقرار الضريبي، وهو عامل جاذب ومهم لضمان استيفائها سنوياً من دون اي تأجيل معتمد حتى الآن.

 

وبعيداً من كثير من التفاصيل، يبقى، في نظر الخبراء الإقتصاديين، انّ من المهم جداً وقف المناقشات في شأن هذه الموازنة وصرف الجهود المبذولة من اجل البحث عن الوسائل الممكنة لتعديلها وتصويب ما يمكن تصويبه، من اجل مواجهة الإستحقاقات المقبلة. فالتلهي ببعض الأمور ليس أوانه. فمن قال انّه لا يحق لرئيس الحكومة ووزير المال الجديدين توقيع قانون الموازنة الجديد، بعدما قال المجلس النيابي كلمته فيها؟

 

ومن قال انّ نشرها في «الجريدة الرسمية» مطلع شباط المقبل يشكّل تجاوزاً للمهلة الدستورية التي تقول بالبت بها قبل نهاية الشهر الجاري لوقف العمل بالصرف على اساس القاعدة الإثني عشرية؟ فالدستور يحتسب موعد البت بالموازنة عند إقرارها في مجلس النواب وليس عند ابلاغها الى الآخرين عبر «الجريدة الرسمية». وعليه، فإنّ استمرار النقاش في قانون الموازنة من أي جهة، أو في اي باب كان، بات خلفنا فـ «الضرب في الميت حرام».