المكسب الذي حققته الانتفاضة هو إسقاطها لمشروع الطائفية السياسية وتعطيلها النهائي لحروبها ذات العناوين المتعددة، مما نقل وظائف هذه الانتفاضة إلى مستوى جديد في العراق عليها تحمل مسؤولياته وأخطاره.
 

قرار مقتدى الصدر المفاجئ بسحب أنصاره من ساحات الاعتصام ببغداد والناصرية والبصرة أثار غضب المعتصمين واستغراب العراقيين لأنه وفّر الفرصة لفصل جديد من حمام الدم الذي تنفذه الميليشيات الموالية لإيران باعتبارها المالكة للقرار الأمني الأول في العراق بعد غياب المؤسسة الرسمية الأولى، حتى وإن كانت حاضرة بزيّها العسكري في تنفيذ قرارات القتل هذه.

 

هناك من بين بعض المتابعين للشأن العراقي والمعجبين بشخصية الصدر من حاولوا وضع تفسيرات دفاعية لقراره الأخير وتبريره بحصول ضغوطات عليه من قبل طهران التي يقيم على أراضيها أو من قبل الزعماء السياسيين المحاصرين بضغوط الانتفاضة، لكن ذلك لا يلغي أن هذه الخطوة وضعت الصدر في حالة لا يحسد عليها بعد اتهام التنسيقيات له بركوب موجة الحراك ومحاولة استغلاله، وتأكيدهم بأن المتظاهرين باقون في الساحات حتى تحقيقِ المطالب وأنهم “لن يكونوا ورقةَ على طاولة المتاجرة السياسية كما فعل الصدر”.

 

من آثار مقتل الجنرال قاسم سليماني النفسية والسياسية عند أتباعه في العراق محاولة تجميع شتاتهم التي عمّقتها الخلافات على مغانم السلطة، والبحث عن وسائل أكثر إجراما وتوغّلا في قتل الشباب الذين خرجوا من عباءتهم التي مزقها التغوّل الإيراني السافر في العراق وأعلنوا بداية عهد عراقي جديد في هذه الانتفاضة المشرقة. فتسارعت أطراف الطبقة السياسية إلى تجاهل خلافاتها لمواجهة هذا الخطر الشعبي الجديد الذي لا تشوّهه أو تلغيه شعارات “الإرهاب والبعثية والأميركية” وغيرها، لأن من يقود هذه الانتفاضة شباب محروم من أبسط مقومات الحياة من دون وصاية سياسية حاول الصدر أن يمرّرها عليهم عبر زرع بعض مناصريه داخل ميدان التحرير.

 

لم تتردّد الأدوات الميليشياوية بعد قرار الصدر الأخير في الكشف عن وجهها الدموي الغريب عن أهل العراق بعد أن اختفت خلال الشهور الثلاثة الماضية خلف عنوان “الطرف الثالث”. كما لم تعد التعبيرات الإعلامية الفضفاضة للصدر قادرة على تمرير رغباته الحقيقية وتطلعاته السياسية في المناورة على حيثيات الانتفاضة ومتطلباتها الحقيقية في إزاحة النظام السياسي القائم حين قرر تنظيم “مليونية” رفض الوجود الأميركي في العراق موازية لمليونيات المنتفضين في العاصمة والمحافظات الجنوبية التي لم تختلف على هذا المطلب، لكنه لا يشكّل أولوية عراقية تفوق أهداف تصعيد الضغط على الأحزاب السياسية وإجبارها على القبول بمرشح لرئاسة الحكومة وفق شروطهم.

 

رغم جسامة تكاليف الدماء الزكية للشباب في مواجهة الحلقة الجديدة من مسلسل الموت الذي تنفّذه دولة الميليشيات، إلا أن هذه المرحلة بقدر ما هي خطيرة فهي تضع الانتفاضة أمام مسؤوليات مصيرية قد يرى البعض أنها فوق طاقتها وإمكانياتها مقابل إمكانيات السلطة اللوجستية، ولكن ما تمتلكه هذه الثورة من سلمية وعدالة مطالب تبقى متفوّقة كما هي الثورات الأصيلة على الحكومات المستبدة حتى وإن كانت خلفها قوى تدعي جبروتها.

 

المكسب الذي حققته الانتفاضة اليوم هو إسقاطها لمشروع الطائفية السياسية وتعطيلها النهائي لحروبها ذات العناوين المتعددة، مما نقل وظائف هذه الانتفاضة إلى مستوى جديد في العراق عليها تحمل مسؤولياته ومخاطره الآنية وهي قادرة على ذلك بجدارة. هذا الخطر هو مدى قدرة الشباب على تحمّل ثقل “السلمية”، في الوقت الذي تحاول فيه الميليشيات الضغط عليها وحصرها في زاوية التخلّي عنه لكي يسهل عليها تبرير القتل الجماعي، وإدخال البلد في حرب دموية يطلقون عليها “حرب شيعية – شيعية”، لكنها في الحقيقة حرب أهلية يريدون من خلالها الغلبة لسيادة إيران في العراق.

 

حققت الانتفاضة خلال ثلاثة أشهر أهدافا مهمة رغم بساطة إمكانياتها المادية والتنظيمية، فقد طرحت معاني الوطنية الحقيقية في ميادين الوعي السياسي ومظاهر متعدّدة في رفع شعار مقاطعة البضائع الإيرانية والترويج للبضائع العراقية، وأصبح التكافل الاجتماعي في ساحات التظاهر بمختلف المدن العراقية ظاهرة شائعة بعد انقطاعها منذ الحصار الأميركي الجائر على العراق بين 1991 و2003، كما حققّت الانتفاضة قفزة كبيرة في مشاركة المرأة بقوة في ساحات الاعتصام والتظاهر كمتظاهرة وناشطة ومُسعفة بما حطّم قوالب اجتماعية فرضتها السلطة بخطابها الديني المنغلق.

 

انتفاضة أكتوبر ليست حدثا عابرا في حياة شعب العراق، وهي تمثّل استفتاء شعبيا على إسقاط الطبقة السياسية حتى وإن تمسّكت حاليا بقوالب الحكم الشكلية. وهذا ما يفرض المحافظة على تماسكها أمام محاولات الهجوم الكاسح للميليشيات التي أرادت إخراج الموالين للصدر عن ساحاتها لكي ينفردوا بالمعتصمين، ولا يدخلون في تعقيدات سياسية معه وهو ما حققه لهم هذه الرغبة.

 

صمدت الانتفاضة وتغلّبت على إمكانيات الأحزاب وميليشياتها الممتلكة لوسائل الإعلام والاتصال الحكومية العراقية والإيرانية الداعمة، في حين لا يمتلك الثوّار سوى مواقع التواصل الاجتماعي التي تستطيع السلطة حرمانهم منها في أي وقت بقطع الإنترنت. كما لازالت صامدة لحد اللحظة تجاه عامل الوقت الذي تراهن عليه الطبقة السياسية، إضافة إلى مراهنتها على افتقار الانتفاضة لقيادة ميدانية موحّدة قادرة على توحيد وجهات نظر التنسيقيات الجماهيرية في مختلف المحافظات والتحدث باسمها لإدارة المفاوضات مع السلطة أو الجهات الدولية.

 

الانتفاضة تمرّ بانعطاف مهم يتطلب قدرات سياسية عالية، وخططا لوجستية للتغلّب على مكر أعدائها، ولعل من أهم سبل مواجهة الحصار السياسي الجديد هو في كسر الإطار الطائفي الذي حاولت السلطة حصرها داخله عن طريق فتح الانتفاضة على ميدانها الوطني الواسع عبر مشاركة المحافظات الغربية الخارجة من احتلال داعش، إضافة إلى ما تحقق من مكسب سياسي في دعمها عبر المواقف الكردية الجديدة على وقع رفضهم لمشروع إخراج القوات الأميركية من العراق، وهو الوتر الحساس الرافض لمشيئة السلطة الحاكمة في بغداد. نحن على ثقة بأن الثورة الشبابية ستعبر محنة محاصرة شبابها وتتغلّب على الميليشيات.