ليس اضطرابُ الطبيعة أو انتظامها ما يملأ أفئدة البشر بالمشاعر الدينيَّة، بل طبيعة العقل البشريّ ذاته، الذي يحاول، دائمًا، وبلا مللٍ ولا كللٍ، التَّنطُّح للمطلق، حتى لو اكتشف أنَّه عاجزٌ عن هذه المهمَّة. فهذا لا يثنيه ولم يثنه في السَّابق عن تكرار المحاولة. وليرضيَ هذا الميل وليحقق راحته يلجأ أحيانًا إلى الأسطورة، وأحيانًا إلى العلم، وأحيانًا إلى الفلسفة. فالعقل البشريُّ لا يقنع بالأمبيري ويطمح دائمًا إلى المزيد. وكلُّ ما عدا ذلك فهو ثرثراتٌ يتحفنا بها الفلاسفة لتبرير مواقفهم التي اتخذوها في الحياة( لا نعرف كيف؟). وسبق لكنط أن أشار إلى هذا الميل لدى العقل البشري، لكنَّه وضع حدودًا صارمةً للعقل البشري. لكن من التزم بهذه الحدود؟
   في كتابه عن دولوز والذي سمَّاه "دولوز"، يعود آلان باديو في نهاية القرن العشرين إلى إعادة طرح هذه المشكلة، فيقول: كلُّنا، أنا ودولوز وغيرنا، بمعنًى من المعاني، فلاسفةٌ قبل-كنطيًون. لماذا؟ لأنّنا لم نلتزم بالحدود التي وضعها كنط للعقل البشريّ.

 


لنأخذ مثلًا دولوز: ماذا يعني أن يتحدث دولوز في النِّصف الثاني من القرن العشرين عن وحدة الوجود والمحايثة المطلقة والمادة كنورٍ وأنوارٍ والتَّصوف الإلحاديّ كما سمَّيته،...الخ وكأنَّ النَّقد الكنطيَّ لم يكن؟ أليس هذا نوعًا من العودةِ القويَّةِ إلى ما قبل كنط؟ وكيف يكون سبينوزا أميرًا للفلاسفة أو مسيحًا للفلاسفة ثمّ نعيب على الإنسان العادي أن يكون متديِّنًا؟ أليس هذا نوعًا من الدين الجديد؟ ثم يأتينا اللاأدريون الذين يمارسون حياتهم بشكلٍ طبيعيٍّ في كلِّ شيءٍ ويجادلون ويناقشون ويقدِّمون الحجج، ومع ذلك يقولون إنّهم لاأدريون؟!!

 


   ما أنقذ دولوز من النَّقد القاسي هو قوله إنَّ القول الفلسفيّ لا يخبِّر وإنَّ الأفهوم لا قيمة علميَّة له. أمَّا لو أردنا تطبيق معايير النَّقد الكنطي على أقوال الفلاسفة من بعده لوجدنا أنَّها، في غالبيَّتِها، ثرثراتٌ من وجهة نظر كنط.
   اللافت في النَّقد الكنطيّ لقدرة العقل البشري أنَّه يأتي من أعظم فيلسوفٍ أنجبته البشريَّة ولم يأتِ لا من أعظم متصوِّفٍ ولا من أعظم عالِمٍ أو فنَّان. فقد اعتدنا على نقد العقل وإثبات عجزه من المتصوِّفين واللاهوتيّين.

 


   لقد بشَّرنا أوغيست كونت بالعصر الوضعيّ أو العلميّ الذي سيُنهي عصريْن متتالييْن من الذَّكاء البشريّ، هما العصر اللاهوتيّ والعصر الميتافيزيقيّ. والآن، ورغم ما قاله كونت، ما زالت العصور متداخلةً ومتشابكةً حتى عند خيرة البشر من علماءَ وفلاسفة. ماذا يعني هذا؟ إنَّه يعني أنَّ الإنسان لا يقنع بالأمبيريّ أو العينيّ، وسيحاول دائمًا التَّنطُّح للمطلق. هل هذا نوعٌ من البذرة الفطريَّة التي تُشير إلى إمكان وجود إله؟ ربما. لكنَّ هذا مسألةُ اعتقادٍ وإيمان. لذا، بانتظام الطبيعة أو بعدم انتظامها، ستبقى هناك مشاعرُ إيمانيَّة. وليس عبثًا أن يحوِّل البعض عقائدهم الإلحاديَّة إلى نوعٍ من العقيدة الدينيَّة  وقادتِه إلى أنبياءَ وقدِّيسين.