الإلتزام بالاستحقاقات الدستورية مسألة أساسية في الدول الديموقراطية التي تعتمد قاعدة تقريب موعد الانتخابات لا التمديد في كل مرة تتعطّل فيها الحياة السياسية او تبرز تطورات تستدعي الذهاب إلى صناديق الاقتراع.
 

القاعدة في لبنان مختلفة عن الأنظمة الديموقراطية، وترتكز على التمديد للمجالس النيابية، بحجة إما الظروف الأمنية، وإما الانقسام السياسي الذي بدلاً من الارتكاز عليه بغية الذهاب إلى الانتخابات يُصار إلى التمديد. وعلى رغم انّ الانتخابات الأخيرة التي جرت في ربيع 2018 كانت أفضل من كل سابقاتها منذ العام 1992 بسبب القانون الجديد الذي أسقط المحادل لمصلحة التمثيل الصحيح، إلاّ انّه لا يمكن تجاهل التحوّل السياسي مع الانتفاضة الشعبية في 17 تشرين الأول، وهو تحوّل مزدوج:

 

ـ أولاً، تحوّل مفاجئ في المزاج الشعبي اللبناني الذي انتفض ضد الأكثرية الحاكمة، معتبراً انّ الأطر الدستورية لم تعد تمثِّله خير تمثيل. وهذا المزاج المستجد لا يعني انّ ما أنتجته الانتخابات غير تمثيلي، إنما يعني وجود شريحة لبنانية واسعة، إمّا لم تنتخب وإمّا بدلت في رأيها بفعل الأزمة المالية غير المسبوقة. وفي الحالتين، لا يمكن التعامل معها بالتعمية والإنكار والتهميش، خصوصاً انّ التظاهرات عمّت لبنان في ثورة فريدة من نوعها.

 

فما حصل ابتداء من 17 تشرين لا يمكن تجاهله، لأنّه يشكّل تحوّلاً في المزاج اللبناني، الذي قرّر الدخول مباشرة على خط العمل السياسي، بعدما لمس خطورة نأيه بنفسه عن الشأن العام مع انعكاس الأزمة على حياته ومصالحه واستمراريته في هذا البلد.

 

وإذا كان الرأي العام المنتفض لا يختزل كل الشعب اللبناني في ظل قوى ما زالت تحتفظ بشكل أو بآخر بتمثيلها، إلاّ انّه لا يجوز التقليل من حجم الناس التي قرّرت القطع مع السلطة، كما لا يجوز التعامل مع مطالب هذه الشريحة الواسعة باستخفاف وتجاهل، لأنّ المنحى السلمي يمكن ان يتبدّل مع الوقت إلى عنفي، فيما الانتخابات هي الوسيلة الوحيدة لتنفيس الاحتقان المجتمعي وإعادة تحديد حجم القوى على اختلافها، فلا يمكن بعدها ان تدّعي الثورة او القوى السياسية احتكارها للتمثيل الشعبي.

 

ـ ثانياً، في موازاة التحوّل في المزاج الشعبي الذي يستدعي وحده فرض انتخابات نيابية مبكرة، فإنّ التحوّل السياسي الذي حصل لا يقلّ أهمية، مع خروج ثلاث قوى حزبية وازنة من التسوية التي أوصلت العماد ميشال عون إلى الرئاسة الأولى. وهذا التطور كفيل وحده في دولة ديموقراطية في تقريب موعد الانتخابات. فالثلاثي «المستقبل» و»القوات» و»الإشتراكي» أصبح خارج التسوية، التي لا يمكن ان تستمر في الارتكاز فقط على «حزب الله». كما انّ الحكم الذي استند الى أكثرية نيابية، قامت بفعل التسوية وتحالفاتها، فقد مشروعيته، وبالتالي، الانتخابات النيابية المبكّرة أصبحت ضرورة مع تبدُّل المشهد السياسي في تحالفاته وخصوماته، وكيف بالحري إذا كان هذا التبدُّل معطوفاً على انتفاضة شعبية عابرة للمناطق والطوائف.

 

ولكن السؤال الذي يطرح نفسه: هل الأكثرية الحاكمة في وارد التجاوب مع الدعوة إلى انتخابات نيابية مبكرة؟ ولماذا تعترض هذه الأكثرية على تقريب موعد الانتخابات؟ وكيف يمكن الوصول إلى هذا الهدف؟

 

وما يجدر ذكره، انّ اي انتخابات نيابية مبكرة يجب ان تتمّ على أساس القانون النافذ لأربعة أسباب أساسية: لأنّه يصعب التوافق على قانون جديد، وفتح باب النقاش في تغيير القانون سيكون كفيلاً بتطيير الانتخابات المبكرة، ولأنّ القانون الحالي تمثيلي ويكفل وصول اي شخص تمثيلي الى الندوة البرلمانية، ولأنّ تغيير قوانين الانتخاب لا يتمّ مع كل انتخابات، فيما المعيار الأساس لهذه القوانين هو حسن التمثيل الذي ينطبق على القانون النافذ، ولأنّ الأزمة الحالية لا تحتمل الدخول في نقاشات لا تنتهي، فلا بأس من فتح هذا النقاش بعد الانتخابات وإعادة تشكيل السلطة، ولكن مع التمسّك دائماً بالحرص على حسن التمثيل للأفراد والمجموعات بعيدًا من «البوسطات» والمحادل.

 

وقد عبرّت الأكثرية الحاكمة صراحة عن رفضها الانتخابات المبكرة للأسباب الآتية:

 

ـ أولاً، لأنّ اللحظة السياسية في البلاد غير مؤاتية لهذه الأكثرية. حيث انّ معظم التعبئة السياسية موجّهة ضدّها، وبالتالي تريد الانتقال إلى مرحلة أخرى تكون العاصفة الشعبية فيها قد هدأت، أو نجحت في تحقيق بعض الخطوات قبل الذهاب الى أي انتخابات تفضي إلى إفقاد هذه الأكثرية أكثريتها.

 

ـ ثانياً، لأنّها لا تريد ان تخسر ميزان القوى الحالي الذي يصبّ في مصلحتها، وذلك على رغم انّ رجحان كفتها النيابية لم يبدِّل شيئاً في التوازن السياسي الاستراتيجي، على غرار الأكثرية التي كانت الى جانب 14 آذار ولم تتمكن من تغيير اي شيء في التوازن الذي نشأ على أثر خروج الجيش السوري من لبنان.

 

ـ ثالثاً، على رغم من انّ التبدُّل في المزاج اللبناني أصاب كل البيئات وبالتالي يمكن ان يجد «حزب الله» صعوبة بمنع وصول نواب شيعة ضدّه في الدوائر التي يتمتع بالأكثرية داخلها، إلاّ انّ التحوّل الجذري والكبير هو داخل البيئة المسيحية، مع تراجع شعبية العهد، حيث صبّ كل غضب الناس ضده مباشرة.

 

فالعهد سيجد صعوبة في التحالف مع «المستقبل» الذي انتقل من موقع الحليف إلى موقع الخصم، بعدما كان ساهم في مدّه بنحو خمسة نواب، إلى الشخصيات المستقلة التي ساهمت في رفع حاصل اللوائح العونية وتريد الابتعاد عن الحالة العونية لتجنُّب غضب الناس ضدها، وصولاً إلى المزاج الشعبي المسيحي الذي انقلب من مؤيّد لهذه الحالة إلى معارض لها.

 

ويكفي ان يفقد العهد نصف وزنه في الانتخابات لتنتقل الأكثرية من ضفة إلى أخرى، الأمر الذي سيجعل «حزب الله» في أزمة مزدوجة: تراجع حليفه المسيحي وتقدُّم خصمه المسيحي المتمثِّل بـ«القوات اللبنانية»، وتراجع كل وضعيته وطنياً بسبب اختلال ميزان القوى المسيحي، وهذا من دون احتساب التحول داخل البيئات الأخرى ومن ضمنها بيئته، سعياً إلى قيام دولة تتناقض مع دور الحزب الإقليمي والداخلي، في ظل حمايته لكل منظومات الفساد تحت عنوان «تحمي فسادنا نحمي سلاحك».

 

ففي ظل هذا التحوّل في المزاج الشعبي والسياسي لن تتهاون الأكثرية الحاكمة، ليس فقط في رفضها إجراء انتخابات نيابية مبكرة، بل في سعيها إلى التمديد في استحقاق 2022 من أجل الحفاظ على أكثريتها. ولكن، دينامية الناس وحدها قادرة على فرض كل شيء، ولاسيما في حال لم تنجح حكومة الرئيس حسان دياب في الأشهر القليلة المقبلة بالتخفيف من حدّة الأزمة، ونجحت الناس بالمقابل في إسقاطها في الشارع. وبالتالي سيكون الجميع أمام تحّول الانتخابات المبكرة إلى أمر واقع.