عشرات المحالّ التجارية في «أسواق بيروت» أُقفلت، فيما قد تلقى المحالّ المتبقية المصير نفسه في ظلّ الحديث عن «موت» المنطقة التي هجرها مُستثمروها هرباً من الإيجارات العالية التي تجبيها «سوليدير» منهم. وعلى الرغم من أن الشركة عمدت في اليومين الماضيين إلى تسييج «أملاكها»، رابطةً تدهور أوضاع المحال بالأحداث التي شهدها وسط العاصمة، إلا أنّ المعطيات تؤكّد أن «احتضار» الأسواق سبق اندلاع الاحتجاجات الشعبية بأشهر طويلة. ما حصل للأسواق ليس إلا نتيجة طبيعية لتطبيق نموذج استثمار «هجين» على الوسط عمد إلى إقصائه وعزله عن بقية المدينة.
 
 
أربعة عشر مدخلاً لـ«أسواق بيروت» أو ما يُعرف بـ«beirut souks» حسب لغة «سوليدير»، سُيّجت في اليومين الماضيين بـ«بلوكات» من الباطون، منعاً لـ«تسلّل» المتظاهرين إليها.
الشركة التي قبضت على قلب المدينة وأقصت ناسها عنه، توجّست من وصول «المُخرّبين» إلى «أملاكها»، فارتأت «تصوين» الأسواق التي كان من المفترض أن تكون حيّزاً مدينياً عاماً يصلح أن يكون مكان التقاء وتظاهر، فيما تحوّلت إلى «مرتع» للمحال التجارية المخصصة للطبقات الميسورة.
المُفارقة أنّ خطوة «التسييج» هذه تترافق مع واقع احتضار هذه الأسواق ولفظها لآخر أنفاسها. عشرات المحال التجارية فيها أُقفلت، فيما تستعد بقية المحالّ للخاتمة نفسها.
من يزر الأسواق التي يحدّها من الشمال شارع المير مجيد أرسلان، ومن الجنوب شارع ويغان ومن الغرب شارع البطريرك حويك وشارع اللنبي من الشرق، يُدرك «موت» المكان الذي يضمّ نحو 200 محال تجاري. وخلافاً لما يتم الترويج له، فإنّ احتضار الأسواق يسبق اندلاع التحركّات الاحتجاجية في وسط العاصمة في شهر تشرين الأول الماضي. إذ تُفيد معلومات «الأخبار» بأن بعض محال بيع الألبسة ذات العلامات التجارية الشهيرة أُقفلت منذ أشهر طويلة (أحدها أُقفل مثلاً في أيلول عام 2018)، فيما يتجه معظم أصحاب المحال المتبقية حالياً إلى الإقفال بعد انفجار الأزمة المالية والنقدية منذ نحو ثلاثة أشهر، على حدّ تعبير مصادرهم.
وفق هؤلاء، فإنّ الإقفال يأتي بالدرجة الأولى «هرباً» من كلفة الإيجارات العالية التي تفرضها إدارة شركة «سوليدير» التي «تجبي» من بعضهم بدلاً يناهز المئتي ألف دولار سنوياً، أي أكثر من 16 ألف دولار شهرياً، فيما تقول مصادر مُطلعة على عقود الإيجارات إن «معادلة» الإيجار تقضي بتسعير المتر بمليون ليرة سنوياً من دون إضافة بدلات أخرى كالصيانات الدورية والتنظيفات وغيرها. يقول هؤلاء إنهم طلبوا مراراً من الشركة خفض الإيجارات بسبب الظروف الاقتصادية التي تمرّ بها البلاد، «وفيما تجاوبت مع البعض منا عبر تخفيض بسيط للإيجارات، لم تتنازل للبعض الآخر».
اللافت هو ما تُشير إليه المصادر نفسها في هذا الصدد لجهة أن الإيجارات المرتفعة سبق أن «هشّلت» أصحاب المصالح في بقية المناطق التابعة للشركة والتي تحوّلت إلى «مدينة أِشباح» تضمّ مباني فارغة بعدما رفضت خفض بدلات الإيجار، وها هي اليوم تُجهز على منطقة الأسواق.
 
احتضار الأسواق يسبق اندلاع التحركات الاحتجاجية في وسط العاصمة
 
ويترافق خبر الإقفال «الدوري» للمحال مع خبر تردّد على لسان العاملين هناك يُفيد بتوجّه «سوليدير» إلى «تجميد» العمل في الأسواق نهائياً. فهل كانت خطوة البلوكات الاسمنتية تمهيداً لإغلاق تلك المساحة نهائيا؟
بدورها، نفت الشركة لـ«الأخبار» تجميد العمل في أسواق بيروت، «بالرغم من الأوضاع الأمنية الدقيقة التي تمر بها البلاد وما شهده وسط بيروت في الأسابيع الماضية»، مُشيرةً إلى أنّ الإدارة اتخذت بالتعاون مع القوى الأمنية «كل التدابير الاستثنائية لحماية الأملاك العامة والخاصة». ولفتت الشركة إلى أنها أصدرت «قرارات مهمة للوقوف بجانب أصحاب المحال التجارية في هذه الظروف الأمنية والاقتصادية الصعبة تشمل بعض الإعفاءات للمصاريف والتخفيضات للإيجارات، ما من شأنه مساعدة المحال التجارية على الاستمرار رغم هذه الظروف». وختمت بالقول إن الشركة «متمسكة بإبقاء هذه المساحة في وسط بيروت مفتوحة للجميع دون استثناء وعلى أتم الاستعداد للتعاون مع أصحاب المحال التجارية بما فيه مصلحة الجميع».
 
وبمعزل عن أن كلام الشركة يتناقض وما يقوله بعض أصحاب المحالّ، فإنّ «خسارة» الأسواق تلك لن يشعر بها بطبيعة الحال المُقيمون في لبنان من ذوي الدخل المحدود أو المتوسط عموماً، والمُقيمون في بيروت خصوصاً. فكيف يمكنهم أن يفتقدوا مساحةً لا «ينتمون» إليها؟ الضرر يقع أولاً وأخيراً على أصحاب المحال التجارية وعلى «سوليدير» التي خسرت مردوداً كبيراً سواء من إيجارات المحال أو من خلال تراجع الإقبال على مواقف السيارات التي «تدرّ» بدورها عائدات مهمة للشركة.
 
يرى الخبير في التخطيط الحضري ليفون تلفزيان أن مساحة الأسواق لا تُعدّ حيزاً مدينياً عاماً أو مساحة فعلية للالتقاء، ذلك أن «سوليدير» أرستها كمساحة استقطاب الفئات الميسورة الدخل. يرى تلفزيان أن ما يحصل حالياً وما تشهده الأسواق ليس إلا دليلاً على أنّ التدخلات التي قامت بها الشركة في المدينة ليست «مستدامة»، «كما أنها لم تأخذ بعين الاعتبار الواقع الاقتصادي والاجتماعي للبلد، إذ تم إسقاط نماذج إعمار بلدان مثل دبي وغيرها عليها من دون التنبّه لخصوصية البلد ونوع التنمية الذي يحتاجه وسطها». ينطلق تلفزيان من هذه النُقطة ليُشير إلى أن توجه «سوليدير» في كيفية استثمار وسط العاصمة «كان محكوماً بالفشل، فها هو اليوم ينهار عند أول خضّة اجتماعية وسياسية واقتصادية، وذلك بسبب تهميش الشركة لما يُعرف بعوامل الاستنهاض التي يفرضها التخطيط المُدني والتي تحتّم التوسع نحو بقية المدن». ويُضيف في هذا الصدد: «لم تنتبه سوليدير لجرس الإنذار الذي قرعته الاحتجاجات عام 2015 ولم تتدارك التداعيات الناجمة عنها»، مُشيراً إلى أن «سوليدير» أرادت أن يكون الوسط وأسواقها جزيرة مفصولة عن بقية المدينة، «لكن ما يحصل اليوم دليل على أن الوسط لا يمكن أن يكون معزولاً».