مع تشكيل الحكومة دخل لبنان في مرحلة سياسية جديدة على مستوى التحالفات والتقاطعات والتموضعات، في اعتبار انّ هذه المرحلة تشكّل جزءاً لا يتجزأ من محطة 17 تشرين الأول التي فتحت الباب أمام منعطف وطني جديد.
 

لم يفسح وهج الأزمة المالية والانتفاضة الشعبية في المجال للتعمُّق في أبعاد خروج 3 مكونات تمثيلية أساسية من الحكومة واستطراداً من التسوية، أي تيار «المستقبل» و»القوات اللبنانية» و»الحزب التقدمي الاشتراكي»، ومدى انعكاس هذا الخروج على الوضع السياسي برمّته في ظل حكومة تستند إلى فريق واحد وتواجه أدق وأكبر أزمة مالية في تاريخ لبنان، وبروز حالة شعبية من خارج الأطر الحزبية ورفضية لكل الواقع السياسي، وتحديداً للأكثرية الحاكمة.

 

فما قبل تشكيل الحكومة غير ما بعدها، حيث انّ هناك مشهداً جديداً سيتبلور تدريجاً، إن على مستوى المكونات السياسية التي رفضت المشاركة في الحكومة، أو لجهة الانتفاضة الشعبية، وما بينهما عناوين المرحلة السياسية واختلاف أدوار الثلاثي بين مرحلة ما قبل 17 تشرين الأول وما بعدها. وإذا كان لا يوجد حتى اللحظة رؤية مشتركة بين هذه القوى وغيرها، وهذا طبيعي بفعل تباينات المرحلة السابقة، إلّا انّ التطورات السياسية كفيلة بتقريب المسافات وخلط الأوراق السياسية.

 

وفي مطلق الحالات وفي سياق جردة سريعة للخسائر على مستوى «حزب الله» والعهد، يتبيّن الآتي:

ـ أولاً، «حزب الله»: بَدّا الحزب تحالفه مع العهد على المساكنة مع تيار «المستقبل» التي وفّرت له الغطاء السني في مرحلة صعود «داعش» والتوتر المذهبي السني - الشيعي، وكانت وزارة الداخلية الترجمة العملية لهذا التفاهم، ومع خروج «المستقبل» من الحكومة فقد الحزب هذا الغطاء الذي لا يمكن للرئيس حسان دياب توفيره.

فـ»حزب الله» كان يستفيد من تحالفه مع العهد من أجل الحصول على الغطاء المسيحي والأكثرية النيابية وطنياً، ويستفيد أيضاً من التفاهم مع «المستقبل» من أجل إبعاد الفتنة المذهبية، وقد نجح في الموازنة بين حاجته للغطاء المسيحي والسني، لأنه بمقدار حرصه على حليف مسيحي وازن وثابت، لا يستطيع ان يفرِّط بجانب أساسي يتصل بإبعاد شبح الفتنة.

 

وحاول الحزب جاهداً إقناع العهد بضرورة التمسك بالرئيس سعد الحريري، ولكنه اصطدم بـ»فيتو» ورفض كلي من العهد، وبإصرار الحريري على حكومة مستقلين يتّفق على وزرائها مع رئيس الجمهورية من دون ان يكون لأيّ وزير مرجعية سياسية، فيما يدرك الحزب في قرارة نفسه انه كان في الإمكان ان يُستثنى من هذه القاعدة على طريقة اختياراته الحالية للوزراء. ولكنه في المحصّلة، وعندما وجد نفسه أمام حتمية الخيار، اختار الشريك المسيحي الذي تراجعت شعبيته على المساكنة مع المكوّن السني ممثلاً بـ»المستقبل».

 

وما تقدّم لا يعني انّ «المستقبل» سيشجِّع على التوترات المذهبية لأنه الأحرص على هذا المستوى، ولكن عدم وجوده في السلطة وفي موقع القرار من رئاسة الحكومة إلى وزارة الداخلية سيُفقده قدرة التأثير على ضبط الشارع، فضلاً عن انّ دور «المستقبل» سيختلف بين كونه في السلطة ورأس حربة في الدفاع عن هذه السلطة، وبين كونه في المعارضة، حيث انّ لكل موقع متطلباته، فيما «حزب الله» الذي تخلى طوعاً عن «المستقبل» عليه ان يتحمّل تَبعات خياراته وترجيحاته.

 

والخطأ الأكبر الذي ارتكبه الحزب أنه انساق وراء العهد بحكومة من لون واحد ربطاً بأجندة العهد الداخلية وحساباته أو تصفية حساباته مع بعض القوى السياسية، فيما كان عليه أن يدفع في اتجاه اي حكومة تحظى بنوع من إجماع وطني إفساحاً في المجال أمامها لإخراج لبنان من أزمته المالية، وذلك بدلاً من أن يتحمّل تبعات الانهيار واتّساع المواجهة بينه وبين الناس، كما ارتفاع منسوب التعبئة ضده داخل بيئته، خصوصاً انّ الأولوية التي كان يفترض عليه رفعها هي إنقاذ لبنان بأيّ وسيلة، لأنه سيكون المتضرر الأكبر من انعكاسات هذه الأزمة، والمستفيد الأكبر من إخراج لبنان من هذه الأزمة.

 

وعلى رغم البراغماتية التي أظهرها الحزب في محطات عدة، إلّا انه افتقَد هذه المرة للبراعة السياسية، لأنّ رئيس الحكومة الذي يحظى بثقة «المستقبل» و»القوات» يقطع تلقائياً نصف المسافة المطلوبة مع المجتمعين الدولي والعربي، فيما عدم منحهما الثقة في التكليف والتأليف سيصعِّب المهمة جداً على الحكومة من زاويتين: سياسية بوضعها في خانة لون «حزب الله» السياسي، ومالية في اعتبار انّ التجربة مع هذا الفريق غير مشجّعة في ظل النظرة الغربية إليه بأنه غير إصلاحي.

 

ـ ثانياً، على مستوى العهد: قطع العهد كل مراكبه مع تيار «المستقبل» الذي شَكّل وإيّاه ثنائية تجاوزت علاقته مع «حزب الله»، لأنّ العلاقة في اليوميات السلطوية تتفوّق على العلاقة الاستراتيجية، وهذه الثنائية ارتكزت على شراكة بين مكوّن مسيحي تمثيلي ومكوّن سني تمثيلي وكانت تصبّ في مصلحة العهد بالدرجة الأولى، لأنّ الحريري كان يتحمّل تبعاتها داخل بيئته وعمقه الإقليمي، فيما كان العهد في موقع المستفيد منها كغطاء سني وخارجي وتسهيلات سلطوية. ولكونه لا يستطيع أن يقيم علاقة شراكة فعلية إلّا مع الأقوى منه لم يتفهّم ضرورات الحريري لاستقالة الحكومة، فحصل الطلاق بينهما، والذي يصبّ في مصلحة الحريري لا مصلحته.

 

وبدلاً من أن يتفق مع الحريري على مرحلة انتقالية يُبقي فيها على علاقة الحد الأدنى، ذهبَ في اتجاه القطع معه فخسر العهد شريكاً سنياً تمثيلياً من دون ان يؤمّن ما يوازيه سنياً، وكان سبق فك ارتباطه مع الشريك السني بفك ارتباط مع «القوات اللبنانية» مسيحياً و»الحزب التقدمي الإشتراكي» درزياً، الأمر الذي أدى إلى انكشافه سنياً وخليجياً ودولياً مع عودته إلى مربّع التحالف مع «حزب الله» حصراً.

 

وشكل تحالف العهد مع الأقوياء مصدر حماية له، فيما ابتعاده عنهم في ظل انتفاضة شعبية وأزمة مالية غير مسبوقة ومواجهتها تستدعي استنفاراً ووحدة استثنائية وليس انقساماً، وَضعه في موقع حرج جداً إذ بالكاد كان في استطاعته مواجهة هذه الأزمة في مطلع عهده وارتكازه على القوى التي انتخبته، فيما يفتقد اليوم الى الزخم الداخلي والخارجي والغطاء الوطني، وحكومة حسان دياب هي بمثابة الفرصة الأخيرة له في اعتبار انّ فشلها سيضعه أمام 3 احتمالات: تكليف وتأليف خلافاً لإرادته، تحوّله الهدف الأول للثورة، الذهاب إلى انتخابات مدخلاً لإنتاج كل السلطة.

 

وقد دخل العهد و»الحزب» في مغامرة غير محسوبة، وفي سوء تقدير سياسي سيدفعان ثمنه قريباً، ولكن الثمن الأكبر سيكون من حصة العهد لأسباب عدة ومختلفة.