محاكمة ترامب، تجسيد تام لكل تلك الانتهازيات. ونتيجتها لن تخرج في النهاية، إلا بانتهازيات أشد وضوحا. فالجمهوريون لن يتخلوا عن رجلهم اليوم، مثلما لم يتخل الديمقراطيون عن رجلهم عام 1999.
 

على ضخامة ما يحدث في مجلس الشيوخ الأميركي، فإنه تعبير عن انتهازيات صغيرة. الجريمة ومحاكمتها معا.

 

الرئيس دونالد ترامب لم يتعد في “جريمته” حدود أن يلاحق غريما سياسيا بالسعي للحصول على معلومات قد يمكنها أن تدينه. الغرض صغير. ولكن الصورة عنه تضخمت لأن أغراضا صغيرة أخرى اعترضت الطريق.

 

عرض تقديم معونات لأوكرانيا، وطلب الحصول على “خدمة” (التحقيق مع نجل جو بادين في قضايا فساد محتملة). ولكن لا المعونات توفقت، ولا الخدمة قُدّمت.

 

الديمقراطيون لم ينسوا هزيمتهم أمام ترامب في انتخابات العام 2016. هيلاري كلينتون فازت بالتصويت الشعبي بفارق ثلاثة ملايين صوت، إلا أنها خسرت تصويت المجمعات الانتخابية التي تمثل الولايات الخمسين. أرادت أن تكون أول رئيسة للولايات المتحدة. وكانت تشعر بقوة أنها تستحق ذلك بالنظر إلى خدمتها كوزيرة للخارجية في عهد باراك أوباما، ولأنها أمضت ثماني سنوات سيدة أولى في عهد الرئيس بيل كلينتون، مما أتاح لها الفرصة لتعرف الإدارة من داخلها، أفضل من أي امرأة أخرى في الولايات المتحدة.

 

كلينتون امرأة جسورة وصلبة، ولكنها ليست من دون انتهازياتها الخاصة. تغاضيها عن “خيانة” زوجها مع مونيكا لوينسكي، بل وتضامنها معه عندما حوكم من أجل عزله، كان أمرا مدفوعا، فحسب، بحلمها الخاص بالرئاسة. لم تشأ أن تثقب القارب مع بيل، لكي لا تغرق صورتها معه.

 

أخطاء أخرى من قبيل استخدام الإيمايل الشخصي في مراسلات وزارة الخارجية، وتعثر التحقيقات في مقتل السفير الأميركي في طرابلس عام 2012، وتواطؤها مع إيران إلى الحد الذي بدد كل ما خسرته الولايات المتحدة من أجل الهيمنة على العراق، بل وتساهلاتها التي أدت إلى توقيع اتفاق نووي مع إيران يسمح لطهران بأن تتحول إلى قوة مهيمنة في المنطقة، كل ذلك كان مدفوعا بقائمة انتهازيات تقصد البحث عن نجاحات خارجية مزيفة، تبرر السعي إلى الرئاسة.

 

الحلم تبدد على أي حال، مع صعود نجم شعبوي، غارق بالمثالب الشخصية، مثل دونالد ترامب، إلا أنه امتلك الشجاعة للكشف عن انتهازيات كلينتون كلها، حتى بلغت به الجرأة إلى التهديد بسجنها على ما ارتكبته من أخطاء.

 

تصوّر ترامب عن المرأة يناسب تماما التصور المسيحي المحافظ في الولايات المتحدة، ولو مع زيادة ماجنة. وهي زيادة لم تغير كثيرا من موقف ناخبيه منه. ومع اتساع تأثيرات العولمة الاقتصادية ومخاطرها الاقتصادية على الطبقة العاملة الأميركية، فقد كان لشعار “أميركا أولا” أثر كاسح، حتى في الوسط التقليدي لناخبي الحزب الديمقراطي.

 

وحدها الانتهازيات الصغيرة هي التي سمحت للرئيس ترامب بأن يلعب على الوتر الحساس لدعوة الشركات الكبرى إلى أن تغلق مصانعها في الخارج، وبأن يخوض حربا تجارية ضد الصين، وبأن ينكر تأثيرات التغير المناخي. كل ذلك من أجل ألا يخسر القاعدة الشعبية التي اكتسبها في فوزه المفاجئ.

 

الديمقراطيون اندفعوا إلى اليسار، لتزداد عزلتهم مع بقاء بيرني ساندرز صوتا عاليا. وسقطت كلينتون ضحية الاكتئاب. ولكنها لم تنس الهزيمة، ولا ثقل وطأتها، ولا تراجعت حدة أحقادها الشخصية ضد ترامب.

 

الجمهوريون وإن هزموا في انتخابات الكونغرس في نوفمبر 2018، فخسروا الأغلبية في مجلس النواب، إلا أنهم حافظوا على تماسكهم في مجلس الشيوخ. نصف النصر ونصف الهزيمة هذان، أقنعا الطرفين بأن انتهازياتهما يمكن أن تكون مفيدة.

 

الديمقراطيون ركزوا هجماتهم على فضائح ترامب الشخصية، فحركوا ضده فعاليات المجتمع المدني من النساء خاصة، اللواتي ساد الافتراض بينهن أن وجوده في الرئاسة إهانة. كما سعوا إلى استغلال فظاظته في التخاطب مع نظرائه في الحلف الأطلسي الذين طالبهم بأن “يدفعوا أكثر” لقاء حماية الولايات المتحدة لهم. إلا أن ذلك غالبا ما كان له تأثير عكسي. المجتمع الأميركي فظ، عندما يتصل الأمر بمصالح الولايات المتحدة، وموقفه من المرأة ليس يساريا إلى ذلك الحد الذي يمكنه أن يهز صورة ترامب.

 

كلا طرفي الانتهازية ظل يبحث عن مأخذ. ترامب أراد أن يفضح منافسا محتملا باتهامات فساد، فانقلبت الوسيلة الأوكرانية إلى مأخذ مضاد.

 

محاكمة ترامب، تجسيد تام لكل تلك الانتهازيات. ونتيجتها لن تخرج في النهاية، إلا بانتهازيات أشد وضوحا. فالجمهوريون لن يتخلوا عن رجلهم اليوم، مثلما لم يتخل الديمقراطيون عن رجلهم عام 1999.

 

بقي، هل يمكن لهذه الصفحة أن تنطوي مع انتهاء المحاكمة؟ الجواب الأرجح، لا. سوف تسقط البرامج الكبرى، لتنتصر حرب الانتهازيات الصغيرة ولتكون هي القوة التي تحرك انتخابات نهاية هذا العام.