«سيذكرني قومي إذا جدّ جدهم وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر»

(أبو فراس الحمداني)

 

لا يمكن بعد متابعة حملات الحقد التدميرية التي تقوم بها مجموعات من الرعاع على وسط بيروت، وتلك الشعارات الدنيئة حول تدمير إرث رفيق الحريري، إلّا فهم إلى أي درك وصلت الأمور في عقلية بعض اللبنانيين في تعاملهم مع مسألة الضمير على الأقل، وأهم معالم الضمير هو حفظ الجميل لمَن فعل الفعل الجميل. أنا أتفهّم ربما صغار السن الذين لم يكونوا هناك عشيّة نهاية الحرب الأهلية، يوم تمكن «اتفاق الطائف» من وقفها، بعد أشهر قليلة من إمعان مَن أطلق حربي التحرير والإلغاء بتدمير ما تبقى من معالم بيروت، يوم انهمرت قذائفه على شوارعها وقتلت من قتلت من عابري السبيل، ويوم قطعت المياه عن البيروتيين ليعطشوا ويستسلموا! ويوم قسم جبل لبنان ما بين متن وكسروان في حرب الإلغاء... هي ذاكرة أصبحت في عالم النسيان، لحسن الحظ، فلا يمكن البناء على هاجس الماضي، ولكن معرفة التاريخ قد تسمح للبعض، من ذوي الألباب، بأن يفهموا العبَر ويعملوا على تفادي الوقوع في الشر المبين من جديد.

 

القضاء على إرث رفيق الحريري! جملة سمعتها تكراراً من الحاقدين عليه بعد أن أحرقته النار وهو يدفع الشر عنهم. هو حقد العاجز عن تحقيق أي شيء نافع فيلجأ إلى هجاء أو تجريح من ينجز، وهذه حتماً من صفات التافهين الراسبين في الامتحان الأخلاقي والإنساني. لكنّ المريب والمحزن هو صمت مئات الآلاف ممّن ترك رفيق الحريري لمسته الإنسانية على حياتهم وحياة أبنائهم وعائلاتهم. والمحزن أيضاً هو صمت 34000 من الجامعيين الذين مَد رفيق الحريري اليد إليهم عندما كان الأمل في خبر كان، فأدخلهم الى أفضل الجامعات، ولم يطلب منهم شيئاً في يوم من الأيام. والمخزي هو تجاهل، لا بل جحود ومشاركة من شاهد وسط بيروت بعد الحرب الذي تحوّل ركاماً على يد الذين ما زالوا زعماء حتى يومنا هذا، فنزلوا ليقولوا انّ إعمار وسط بيروت سرق من جيوبهم. المعيب هو خيانة من عادوا إلى لبنان على دم رفيق الحريري، فصار همهم الوحيد كيف يمحونه كلياً من الذاكرة، محاولين حرمانه حتى من لقب الشهادة.

 

«وإذا خلا في الأرض جبان... طلب الطعن وحده والنزالا»، صدق المتنبي، فمن السهل أن تهجو من هو غير قادر أو غير راغب في الرد عليك. لكن لا بأس فمن يريد انتقاد ما أصبح يسمّى سياسات رفيق الحريري أو يريد القضاء على الحريرية السياسية فهذا شأنه، ولكن عندما نريد النقاش في كل ذلك علينا أن نطرح الأمور بنحو موضوعي ونرى أين أخطأت تلك السياسات وأين أصابت، وهل كانت هناك خيارات أخرى متاحة في ظل الاحتلال السوري للبنان، وفي ظل الخلافات المرضية السياسية والطائفية في المجتمع اللبناني وفي ظل وجود ميليشيات مسلحة لا سلطة أو مونة للبنان عليها مع وجود احتلال آخر للعدو الإسرائيلي... لقد كان ربما الخيار الأفضل لرفيق الحريري في ظل كل تلك المستحيلات، هو أن يكتفي بسلسلة الأعمال الخيرية ويعتزل مبكراً العمل السياسي ويترك «الشقا على مَن بقى»، ولكنه اجتهد وحاول اقتناص فرص النجاح في عملية تفادي سقوط الدولة في النسيان، أو تحولها إلى الفشل والزوال، ولكن اليوم أتى من وصل إلى الحكم ليمارس مجدداً، على طريقة بعض العهود السابقة فيقضي على البلد في سبيل منع الخير عن طريق آخرين.

 

لم يكن رفيق الحريري شريكاً في الحرب الأهلية، وعندما أتى إلى الحكم وجد بلداً دمّره سياسيون ورؤساء عصابات وزعماء حرب وقادة جيوش حوّلوها إلى ميليشيات، وبدلاً من أن ييأس ذهب إلى العمل وخاض التجربة الخطرة في الحكم وسط المؤامرات والاتهامات والتخوين والافتراء بأنه أتى لأسلمة لبنان، أو أنه سرق حقوق المسيحيين، أو أنه عميل للسعودية وأميركا أتى ليحاصر المقاومة... فقتل رفيق الحريري، وبقي زعماء الحرب ليكملوا تدمير لبنان، وما زال حقدهم قائماً على ما أنجزه. المصيبة اليوم هي أنّ الجيل الذي لم يَعش ويفهم تلك الحقبة أخذته الأكذوبة الشعبوية وصار يريد أن يخوض الحراك من خلال القضاء على إرث رفيق الحريري! ولكن من مثلنا يعرف أنّ لبنان إن كان بقيَ له أمل في الحياة فلن يكون إلّا بمشروع يُشابه حلم رفيق الحريري.