على كثافة دخان القنابل المسيلة للدموع في ليالي بيروت، الصورة تزداد وضوحاً، يوماً بعد يوم: السلطة السياسية تهاوت تماماً، ولبنان يتَّجه سريعاً نحو إعادة إنتاج هذه السلطة. واستعداداً، هناك ورشتان مفتوحتان وهما الأمن والمال... على أساس أنّ البقية «تُدبَّر»!
 

لا يجيب أي من أركان السلطة عن السؤال: إذا كان فريق 8 آذار قد استبعد خصومه السياسيين إلى خارج عملية التأليف وارتاح منهم، فمن أين يأتيه التعثُّر؟

 

وهل يمكن تصديق أنّ «حزب الله» والرئيس نبيه بري و«التيار الوطني الحرّ» الذين لم يسألوا عن ميثاقية طائفة كبرى، هي السنّة، في عملية التكليف، قد باتوا حسّاسين على مراضاة الكاثوليك وتيار «المردة» والحزب السوري القومي الاجتماعي في عملية التأليف؟

 

الواضح أنّ طاقم السلطة ما زال يناور لعلّ الوقت يحمل إليه فرصة جديدة. فهو لا يجرؤ على إعلان حكومة اللون الواحد المموَّهة لأنّ عواقبها خطرة، داخلياً وخارجياً. وقد تبلَّغ بأقنية مختلفة، أنّ أي حكومةٍ تتعرَّض للطعن باستقلاليتها ستُقابَل بالاعتراض والعزل دولياً، بل إنّ لبنان سيدفع غالياً ثمن قبوله بها، لأنّ ذلك سيكون تحايلاً على المطالب الدولية.

 

وهذا يعني أنّ القوى العربية والدولية التي يعتمد عليها لبنان لإخراجه من مأزقه المالي الخانق ستردُّ عليه بمزيد من التجاهل والعزل. وعلى الأرجح، ستعمد واشنطن إلى تنفيذ تهديداتها بتصعيد العقوبات على لبنان نوعياً وتوسيع نطاقها.

 

هذا الأمر سيقود لبنان إلى الإنحدار حتى حدود خطرة، اقتصادياً ومالياً ومصرفياً، ما يدفع إلى تصعيد قاسٍ في الانتفاضة الشعبية تحت وطأة الجوع والإحباط والذلّ، فيتهدَّد الأمن الاجتماعي. وسيجد رموز السلطة أنّهم باتوا في مواجهة مباشرة مع الناس، أينما كان.

 

عندئذٍ، ستكون القوى العسكرية والأمنية في موقعٍ حَرِج جداً. وقد بدأت طلائع هذا الإحراج تظهر منذ الأيام الأولى من «الانتفاضة الثانية»، أي منذ 14 كانون الثاني. ومن الواضح أنّ مستوى الحدّة والقسوة آخذ في التصاعد بين المنتفضين والقوى الأمنية. واضطر الجيش إلى التدخّل أكثر في وسط بيروت.

 

وإذا كانت الانتفاضة الأولى «الناعمة»، في 17 تشرين الأول، قد شهدت إقدام بعض المحتجين على إحراق أنفسهم احتجاجاً، فماذا يُنتظر من الانتفاضة الثانية «الخشنة»؟

 

وإذا كانت الأولى قد شهدت إسالة الدماء أحياناً، وسقوط ضحايا، فهل يُستبعد أن تتكرَّر الفصول بخسائر أكبر؟ وما مغزى كلام الوزير السابق نهاد المشنوق عن الدم؟

 

وإذا كانت الانتفاضة «الناعمة» قد انتهت بملامح سخونة مذهبية أو طائفية أو حزبية على خطوط التماس في الخندق الغميق والشياح - عين الرمانة وفي بكفيا وسواها... فكيف تُضمَن حماية الانتفاضة «الخشنة» من المشبوهين الذين غالباً ما تدفع بهم القوى المتضررة من الانتفاضة، من أجل تخريبها؟

 

المشكلة هي أنّ قوى السلطة مستعدّة للمراهنة بكل شيء من أجل استمرار نفوذها ومكاسبها المحقَّقة في نظام المفاسد. والدليل أنّها لم تتجاوب مع الانتفاضة على رغم مرور 3 أشهر على انطلاقها. وعلى العكس، هي تواصل نهج المماطلة وكسب الوقت… لعل أمراً ما يطرأ ويطيح الانتفاضة.

 

ولو كان متاحاً للسلطة أن تسحق الانتفاضة بقواها الأمنية لفعلت. وفي أي حال، هي لا تتوقف عن المحاولة. ولكن تبيَّن لها أنّ الجيش والقوى الأمنية لن تخرج عن سلوكها الوطني والأخلاقي. والمجتمع الدولي يترصَّد أداء هذه القوى لحظةً بلحظة، ويشجّعها على الصمود في أداء دورها السليم مهنياً، مهما اشتدت ضغوط السياسيين.

 

ومن الواضح أنّ المجتمع الدولي يسدّد السهم في اتجاه واحد في لبنان هو السلطة السياسية. وهذا ما برز في المواقف اللافتة التي عبّر عنها الممثل المقيم للأمين العام للأمم المتحدة في لبنان يان كوبيتش، وبدرجة عالية من الاستهجان والاشمئزاز.

 

وثمة مَن يعتقد أنّ مقاطعة الرئيس سعد الحريري لمجمل عمليات تصريف الأعمال، ورفض المشاركة في المجلس الأعلى للدفاع، هما ورقة ضغط على شركائه (السابقين) في السلطة من أجل التنازل والقبول بتأليف حكومة مستقلين، تماشياً مع المطالب الدولية.

 

ويقول متابعون: «لو كانت قوى السلطة خائفة فعلاً على البلد لما هرعت إلى عقد الاجتماع الأمني وأضاعت وقتها في صوغ القرارات والتوصيات ورسم خطط المواجهة وإنهاك القوى العسكرية والأمنية، بل كانت اختصرت الطريق بتشكيل حكومة مستقلّين ترضي الناس وتدفعهم إلى الانسحاب تلقائياً من الشارع.

 

هذه القوى تريد الاستمرار في المماطلة السياسية، سعياً إلى إمرار الأسابيع والأشهر المقبلة الحاسمة، أي: «الترقيع» أمنياً بتدابير للجيش وقوى الأمن، و»الترقيع» مالياً بتدابير لمصرف لبنان ووزارة المال وجمعية المصارف، وتجنُّب السقوط المريع في الربيع الآتي، خصوصاً عندما يحلّ موعد استحقاقات الدين بين آذار وحزيران.

 

ولكن «الترقيع» الذي عاش عليه - ومنه - طاقم السلطة في لبنان، بالمال كما بالأمن، هل سيفي بالغرض مجدداً أم تجاوزته الظروف؟ وهل بات لبنان مجبراً على القرارات الجذرية؟ على الأرجح، مصير قوى السلطة سيكون على المحك في هذه الحال، مهما حاولت الهروب. وستكون حتمية إعادة إنتاج السلطة.