من المعلوم ان المجتمع البشري قد اعتمد الوسيلة الشعرية رضوخا لدوافع الحاجة الملحة في سبيل التلذذ النفسي و قد ولده امران مهمان يعودان بالاساس إلى الطبيعة الإنسانية وهما الامحاكاة والتذوق فإن المحاكاة أمر فطري موجود لدى الناس منذ الصغر، والتذوق او الالتذاذ بالأشياء أمر عام للجميع.

ان الحالة الجمالية التي اوجدها المجتمع الانساني والتي تعتبر بحد ذاتها متعة جمالية تهدف لايجاد امور كثيرة تعتبر كأدوات فنية عالية الجودة ومتجددة وباساليب جمالية اشبه بتجليات نفسية في جوهر الفكر والرسالة التي تعد. لذا فإن الجوهر الموجود في جسدية او بنية الفن عامة وخاصة في الشعر والذي يعتبر جزءا من الفن له قدرة استثنائية على التلائم مع الجمال والاندماج به وهذا الجوهر يعمل بطريقة سحرية عجيبة يشد المتلقي شدا وبطريقة طردية حيث تكون وظيفته تقديم المتعة النفسية للشاعر والمتلقي في نفس الوقت وهذه المتعة تعتبر لدى الاخرين هي المنفعة الانسانية .وعليه فان الشعر يمكنه من امتلاك ما يراه حقيقة ووهما في التعبير الادبي والنفسي ، ويزاوج بينهما في خفاء وتجلٍّ واضح ويكون الكشف عن الجمال عبر هذا التبادل والتزاوج والتعاور بحيث يشف عنه او يكشف عن كل منهما محاولا اخفاء الآخر وهذا هو سر المتعة في الشعر . فاذا كان الشعر ترنيمة غنائية صادقة قد تولدت من الشعور المبدع، فإن هذه القصيدة ناشئة عما نفسية الشاعر وتعبر عما في خوالجه . فهي تمثل صورة من صور الاستقرار الذي يحسه او يشعره بجماليته .

إن المسيرة الشعرية في مواجهة الحياة لم تصل بعد إلى لحظة انتصار بل هي على الأغلب لحظة انحسار قد تعيش بالانبعاث و ربما الشاعر يدرك بحساسية مرهفة أنه يواجه حياة لا تكشف عن وجهها مرة واحدة فوظيفة الشعر في الانتصار الافضل هي مرحلة دائمة في سبيل الوصول .للغرض المنشود لذلك فهي تمثل حالة الغليان الداخلي في أعماق الشاعر دائماً ونفسيته حتى لو ظهرت عليه ملامح السكينة وعلى بعض قصائده مسحة الشعر الوجداني .

فالشعر يثبت قدراته الأدائية في استكشاف حا ل الإنسان ويربط ايحا ئاته بها ربطاً شمولياً، بحيث لا يتمكن- في الاغلب - عزل نفسه عن المكان والزمان المقال فيه وربما يكون شموليا فيبقى خالدا وهذا سر من اسرار جماليته فقد يرى مسرة الانسان وفرحته وانسياقه نحو التفاؤل سرا دائما في النفس البشرية وقد يرى أن عذاب او تعا سة إنسان في موقع معين هو عذاب للانسانية . لذا فإن حالة الموت لدى الشاعر تغدو موتاً وحالة انسانية وليست شخصية ومعاناة ومعضلة تكتنف الحياة في كل مكان، لا حياة شخص بعينه.

ومثل هذا التوجه الشمولي هو الذي يمس أعمق أعماق النفس البشرية منطلقة من الخاص إلى العام، من دائرة فقدان ضيقة بموت واحد من ملايين البشر إلى المصير الذي ينتظر هذه الملايين

ولهذا فأن الشعر يعتبر من أهم أركان الفنون الهادفة في خلاص البشرية واستكشاف حالها ومآلها وارتقائها إلى مواقع جديدة خارج دائرة الالم والعذاب بما يمتلكه هذا الفن العظيم من رؤية ورؤيا، وقوى حدسية تنبئيه نتيجة المعاناة التي تبعث فيه قوة التشبث والامل من داخل المعاناة النفسية وليس فوقها أو خارجها.

ان معظم علماء الجمال يميلون إلى القول بأن عمل الفنان هو وحده الذي يسمح لنا بفهم الإنسان الحقيقي فنفس الشاعر المتلهفة على حب المصير الإنساني بإحساساتها الإنسانية حتما يترجمها إلى جمالية طاغية مثقلة، حانية على الناس والأشياء والعالم وعليه استطيع ان اقول ان الشاعر يستكشف في الطبيعة ما لا تراه عين الإنسان العادية وهو في رؤيته هذه يفجر الضوء لينير ظلمة الحقيقة في النفس وينزع عنها كل أقنعتها القاتمة وهذاالشاعر قد يضع نفسه في مواجهة نفوس إنسانية مختلفة ربما يكون بعضها متعبة وبعضها معذَّبة والاخرى متالقة نحو السمو والارتقاء .

لذا فالشاعر ليس مجرد إنسان يحيا لذاته، ويعمل من أجل إشباع رغابته وحدسه الشعري ، بل هو إنسان ذو رسالة معينة ويشعر أنه ينطق باسم قوة عليا قاهرة قد تعلو على شخصيته وتنفعل معها وتلهمه افضل ما عنده من ابداع ولعل هذا هو السبب الذي يجعل الكثير من الشعراء يشعرون بأن لهم حياة أخرى تتعدى وجودهم الزماني و الذاتي وهذه الحالة قد تصدق بقوة ان الجمال الذي لا يقف عند حد نزع الكره والبغضاء واستئصال كل ما يشوه الجمال وجه البشرية الجميل و إنه لينهض بالنفوس ويدفعها نحو حياتها واستقرارها والجمال الشعري يقدم او يثبت صلات لكل ما هو موجود من امور ربما تراها عين الشاعر وحده، فيكون شعره صوت الحياة الصافية وسرها، بحيث تكون لها القدرة على التقاط او بعث اهتزازاته الكامنة في اعماقه وهذه الاهتزازات انما هي رعشة لخفقات قلبية او نفسية تصل إلى مسامع متلهفة لتصل الى جوهر الحياة فيكون الشاعر قد اشتري حريته الأبدية وما تسمو اليه نفسه الابية من قيم عليا طالما ظل يمني نفسه في الوصول اليها فيفرغ شحناته الشعرية المنبثقة من نزعات نفسه فيها .

ونستنتج من هذا كله حقيقة واحدة هي ان الشعر في جوهره خبرة انسانية من نوع معين بل هي خبرة جمالية عالية الهمة ولا يمكن فهم هذه الحقيقة العظيمة الا من خلال فهم اسس طبيعة الخبرة الجمالية ومساراتها وطموح نفسية الشاعر للوصو ل اليها والالتصاق بها بحيث تبقى متعانقة مع نتاجه الشعري وتكون جزءا من كل معاناته وما يعتمل في نفسه فيولد شعرا جميلا .

فالح نصيف الحجية
الكيلاني