ليس هناك اتجاه حاسم حتى الساعة. ولكن «اللعبة الحقيقية» ربما بدأت تنكشف. وثمة مَن يعتقد أنّ التوقعات بـ«تعثّر» الرئيس المكلَّف بدأت تجد طريقها إلى الترجمة... ومعها احتمالات العودة إلى الرئيس سعد الحريري: إمّا رئيساً لحكومة جديدة، وإمّا بـ«تنشيط» حكومة التصريف، وهذا هو الأقرب منالاً حالياً، لأنّ البعض يفضّل الانتظار لضرورات إقليمية. ولكن، الحريري «الهارب» من مسؤولية انهيارٍ واقع حتماً، هل يقبل بالعودة عاجزاً ليسقط البلد بين يديه... وعلى رأس حكومة مستقيلة؟
 

ليست هناك حالة شاذة كالتي يعيشها لبنان حالياً. ففيه رئيسان للحكومة، واحد للتصريف وواحد للتأليف، لكن أيّاً منهما لا يتولّى السلطة. وطبعاً، غالبية وزراء الحكومة المستقيلة يعيشون حالة استقالة من المسؤولية أيضاً.

 

مَن يدير البلد اليوم، في أخطر لحظاته؟ لا أحد. ولماذا لا تتحوَّل الحكومة المستقيلة خليةَ أزمة تعمل ليلاً ونهاراً، إلى أن تتشكل الحكومة الجديدة؟ لا جواب. لكن الواضح أنّ الحريري، الذي يعرف إلى أين يتجه البلد في الفترة القصيرة الآتية، يتجنّب الوصول إلى وضعٍ يتحمّل فيه وحده المسؤولية عن الكارثة.

 

هنا تجدر العودة إلى العام 2018، عندما كُلِّف الحريري تأليف الحكومة الحالية (المستقيلة) بعد الانتخابات النيابية في أيار. آنذاك، فكَّر كثيراً: هل يتولّى هذه المسؤولية أم ينأى بنفسه تجنّباً لسقوط البلد بين يديه وتحميله المسؤولية التاريخية عن انهيار كان يحذّر منه الخبراء والعارفون بقوة؟

 

تحت تأثير الضغوط الداخلية والخارجية، وتحت عنوان «الواقعية السياسية»، ارتأى الحريري أن يعود إلى السراي الحكومي. وخاض غمار معركة قاسية للتأليف استمرت 8 أشهر. طبعاً، كانت في ذهنه تجربة «نصف خروج» من السلطة، عندما أعلن «استقالته» الشهيرة في تشرين الثاني 2017. وجد الحريري أنّ هناك خسائر في خروجه أكثر من الأرباح. قرّر قبول المهمَّة.

 

وفي الواقع، هو راهنَ على أنّ أصدقاءه الفرنسيين والسعوديين وسائر الحلفاء العرب والإقليميين، إضافة الى الأميركيين، سيقفون معه دائماً كما وقفوا مع والده الرئيس رفيق الحريري، وانهم سيتدخلون لإنقاذ لبنان كلما أشرف على الوقوع، لمئة سبب وسبب تتعلق بمصالحهم.

 

توقّع الحريري يومذاك أن يتم الدعم من خلال مؤتمر «سيدر» الذي قرّر في نيسان 2018 ضَخّ مساعدات إلى لبنان بحدود 11 مليار دولار. ولم يكن يتصوّر أنّ شروط الإصلاح والشفافية الموضوعة ستكون «صارمة» إلى هذا الحدّ. فعادةً، أطلق اللبنانيون وعوداً كثيرة لمؤتمرات باريس المتتالية، ولم يلتزموا… وكان الفرنسيون والعرب «يغفرون» للبنانيين ويساعدونهم، وتستفيد الطبقة الحاكمة.

 

لم يدرك الحريري أنّ المناخ الدولي والعربي تغيَّر، وأنّ إدارة الرئيس دونالد ترامب باتت تمارس «الفيتو» على أي دعم غربي أو عربي للبنان، ما دام «حزب الله» يتغطّى به لتوسيع نفوذه، وتالياً إيران.

 

بذل الحريري محاولات يائسة لئلّا يقع الانهيار بين يديه، فيسجَّل على أنه فشل لمسار الحريرية السياسية منذ مطلع التسعينات. وحتى الأيام الأخيرة السابقة لانطلاق الانتفاضة الشعبية، جَرَّب حظّه. قام بزيارتين فاشلتين لفرنسا والإمارات، وكان ينوي زيارة ألمانيا والسعودية وفرنسا مجدداً، لعلّ شيئاً من المساعدات يتحرك، لكنه «استسلم» عملياً، وبدأت تنكشف معالم الانهيار سريعاً.

 

المطّلعون يقولون: عندما رأى الحريري أنّ الانهيار يتسارع وأنه في موقع المسؤولية في أي حال، وشاهَد حشود المتظاهرين، بمئات الألوف، تتجرّأ على أهل السلطة وتفنِّد فضائحهم وتطالبهم بالرحيل، أدرك أنه بات محاصراً في المكان الخطر.

 

وفي الأيام الأولى من الانتفاضة، كان الرجل يماشي شركاءه في رغبتهم في المماطلة والمراهنة على إنهاء «ظاهرة» الشارع، لكنه كان يعرف أن الأمر ليس بهذه السهولة. وبقي اتجاهان يجذبانه إلى السلطة:

 

1- إلتزامه بالشراكة التي يطلب منه «حزب الله» أن تستمر.

 

2- مصلحته الشخصية بالبقاء رئيساً للحكومة وزعيماً للسنّة طوال عهد الرئيس ميشال عون، أي تجنّب العودة إلى «السنوات العجاف»، بين مغادرته السراي في 2011 والتسوية الرئاسية في 2016.

 

ولكنه أدرك أنّ عواقب بقائه في السراي صارت أكبر من الحسنات. فأيّ رصيد سيبقى له إذا انهار البلد بين يديه؟ ولذلك، هو أصرَّ على عدم العودة إلّا بتصحيح الوضع، أي بحكومة مستقلين. والأرجح أنّ الرجل ليس مُغرماً بمعيار الاستقلالية إلى هذا الحدّ، لكنه أدرك أنّ خلاف ذلك يعني: حكومة معزولة عن المجتمعين الدولي والعربي، وبلا مساعدات، أي الموت اختناقاً…

 

بالتأكيد، يفضّل الحريري أن «يزيح» فيما يسقط الجدار عليه. فليجرِّب سواه حظهم في منعه من السقوط. وربما هو يعتقد أنّ الأمل بالإنقاذ ضعيف. وبعد ذلك، يأتي ويتفاهم مع الذين استمرّوا على قيد الحياة.

 

حتى هنا، كل المناورات التي يقوم بها الحريري تبقى مشروعة. ولكن، المشكلة هي أنّ الأمر تجاوز اللعبة السياسية ليمسّ إدارة البلد في ظروف أكثر من قاتلة. فالحريري يخشى أن يقع الانهيار بين يديه، وهو على رأس حكومة تصريف الأعمال، أي قبل أن يقوم الخلف بتسمية وزرائه.

 

في هذه الحال، لن يتفلَّت الحريري من مسؤولية الانهيار ومن عواقبه وتداعياته إلّا جزئياً. وهو يخشى أن يتركه الشركاء وحيداً في المواجهة ويتنصّلوا من المسؤولية ويعمدوا إلى إلباس الحريرية تهمة الوصول إلى الكارثة.

 

ولذلك، يتمنى الحريري:

 

إمّا أن يسلّم شركاؤه بمطلبه تأليف حكومة مستقلين تلقى الدعم الخارجي، وعندئذٍ يمكن أن تتحقق بداية الإنقاذ على يديه، ويصبح بطلاً في اللعبة.

 

وإمّا أن يُسرع الرئيس المكلّف حسّان دياب في تأليف حكومته، فتصبح هي حكومة التصريف، سواء نجحت في نيل الثقة أو فشلت.

 

ومن هذا المنطلق، يجهد دياب أيضاً ليشكّل حكومة مستقلين تحظى بثقة الخارج لئلّا يحترق. لكن القوى التي جاءت به إلى التجربة لا تناسبها إلّا حكومة تسيطر عليها. وهذا يعني أنّ الكارثة ستقع. أمّا الحريري فعليه أن يفكر في قبول الدعوة ليفعّل حكومة التصريف «انتحارياً»، وقيادة البلد نحو المجهول… ربما.