الواضح، لا بل المؤكد، أن القيادة الفلسطينية وبعد كل هذه الفترة الطويلة من محاولات استدراج حركة «حماس» إلى الانضواء في الإطار الوطني الفلسطيني، الذي هو منظمة التحرير، قد وصلت إلى قناعة نهائية حاسمة بأن هذه الحركة، التي كانت قد التحقت بالعمل الفلسطيني كتنظيم «إخواني»، لم تعد معنية بأي توحيد لا لجهود الفلسطينيين ولا لقواهم وتنظيماتهم ولا لبرنامجهم السياسي الذي بقوا يسعون إليه وعلى مدى سنوات طويلة والمتمثل في إقامة دولتهم المستقلة على حدود عام 1967 وعاصمتها القدس الشرقية.

 


والأخطر هنا أن هذه الحركة قد ذهبت بعيداً في إدارة ظهرها للوحدة الوطنية الفلسطينية بإبرام اتفاق «هدنة»، يبدو أنه سيكون طويل المدى مع إسرائيل مما يعني أن التباعد بين قطاع غزة والضفة لم يعد جغرافياً وفقط بل إنه أصبح سياسياً أيضاً، وهذا يثبت وعلى نحو قاطع أن «حماس» قد شكّلها التنظيم العالمي لـ«الإخوان المسلمين» لتكون بديلاً لمنظمة التحرير ولكل الفصائل الفلسطينية المسلحة وفي مقدمتها حركة «فتح»، والأخطر هنا هو أن هذا «القطاع» قد يشهد حرباً أهلية بين الطرفين لا بل بين الفلسطينيين في هذه المنطقة المحاصَرة وحيث إن الإسرائيليين بقوا يريدونها، أي هذه الحرب، ويسعون إليها على مدى سنوات طويلة.

 


ولعل ما يزيد الأمور خطورة أن حركة «حماس» هذه قد أصبحت مرتبطة بتحالف ليس إقليمياً وفقط وإنما دولي تشارك فيه الأطراف كلها التي كانت قد حضرت اجتماع «كوالالمبور» في ماليزيا في التاسع من ديسمبر (كانون الأول) الماضي ومن بينها، بالإضافة إلى بعض الدول العربية والإسلامية، إيران «الخامنئية» التي باتت تتمدد تمدداً احتلالياً في أربع دول عربية، وهذا بالإضافة إلى محاولات السيطرة على بعض مناطق الخليج العربي وعلى باب المندب والشواطئ الغربية للبحر الأحمر الذي كان قد أقام فيها رجب طيب إردوغان قاعدة بحرية قبل إسقاط النظام السوداني السابق الذي كان على رأسه عمر البشير الذي بقي ثلاثين عاماً في حكمه البائس.

 


لقد دأبت مصر، بحكم عوامل كثيرة، على التعاطي مع حركة «حماس» بمرونة زائدة وذلك مع أنها تعرف، لا بل وأكثر من يعرف، أنها حركة «إخوانية» وأنها كانت وربما لا تزال تعدّ نفسها جزءاً من «إخوان مصر»، وأنها متورطة سابقاً ولاحقاً في بعض العمليات الإرهابية التي بقيت تشهدها سيناء وأيضاً التي بقي يشهدها العمق المصري كله!
وبالطبع فإن هذه الحركة، كما يقال، قد بقيت تزود مصر، على اعتبار أنها كانت ولا تزال منفذها الوحيد إلى الخارج، ببعض المعلومات عن أنشطة «الإخوان» المصريين في سيناء تحديداً، والبعض يقول، وفي الداخل المصري أيضاً، وهذا قد جعل بعض المتابعين يصفون العلاقات بين «حماس» والأجهزة الأمنية المصرية بأنها علاقات تبادل منافع وأن الجهات المصرية المعنية تعرف معرفة كاملة أن هذه الحركة هي «تنظيم إخواني» لا يمكن الاطمئنان إليه لكنها كانت وربما لا تزال بحاجة إلى بعض معلوماتها عما يجري إنْ في قطاع غزة وإنْ في المنطقة كلها.

 


والمهم ورغم ذلك فإن مصر كدولة وكنظام قد بقيت على صلة متينة مع حركة «فتح» ومنظمة التحرير، وحقيقة، وهذه مسألة لا يمكن إنكارها، أن الكفاح الوطني الفلسطيني بكل هيئاته وتنظيماته الطليعية قد ظهر إلى الوجود في الحاضنة المصرية، وأنه قد تنامى وترعرع في هذه الحاضنة منذ ذلك التاريخ حتى هذه اللحظة، والمعروف أن كل الحروب التي خاضها هذا البلد العربي مع إسرائيل منذ حرب عام 1948 حتى حرب عام 1973 كانت في حقيقة الأمر حروباً فلسطينية ومن أجل فلسطين.

 


ثم إن مصر قد بقيت، ومنذ ظهور حركة «حماس» كفصيل مقاومة مسلح، تبذل جهوداً متواصلة ومضنية لإلحاقها بمنظمة التحرير الفلسطينية وللتقريب بينها وبين «فتح»، لكنها وللأسف لم تحقق أي إنجاز في هذا المجال، والمشكلة هنا تكمن في أن القرار بالنسبة إلى هذا الأمر ليس قرار هذه الحركة وإنما قرار التنظيم العالمي لـ«الإخوان المسلمين» الذي كان «إخوان مصر» وما زالوا يمارسون فيه دوراً قيادياً رئيسياً، والمعروف هنا أن هؤلاء بقوا يعرقلون كل الجهود الخيّرة التي كانت ولا تزال تقوم بها القيادة المصرية في هذا المجال.

 


والمهم أنَّ «حماس» بخطواتها الأخيرة هذه بعقد صفقة تهدئة مع إسرائيل، يقول البعض إنها ستكون مفتوحة زمنياً، قد وضعت حداً نهائياً لمفاوضاتها «الماراثونية» مع حركة «فتح» ومنظمة التحرير، وأنها قد عززت كل هذا التباعد الانفصالي بين قطاع غزة والضفة الغربية، وهكذا وبالتالي فإن إجراء انتخابات تشريعية ورئاسية فلسطينية قد بات متعذراً، وأنه ثبت أن هذه الحركة بالأساس لم يشكّلها «الإخوان المسلمون» لتكون حركة مقاومة بل لتكون جناحاً عسكرياً «إخوانياً» يتبع عملياً التنظيم العالمي «الإخواني».

 


وأيضاً فإن ما تجدر الإشارة إليه في هذا المجال هو أنّ حركة «حماس» مثلها مثل «حزب الله» اللبناني ومثل «الحشد الشعبي» العراقي قد نعت قائد «فيلق القدس» في «الحرس الثوري» الإيراني قاسم سليماني، الذي قُتل بضربة جوية أميركية في وقت مبكر من يوم الجمعة الماضي، وأن كتائب «القسام» التابعة لهذه الحركة أشادت بما قدمه لها هذا المسؤول الإيراني الكبير «من دعم في قطاع غزة»! ثم وأكثر من هذا فإن حركة المقاومة الإسلامية قد فتحت بيت عزاء لسليماني في ساحة الجندي المجهول في قطاع غزة، حيث قال أحد الناطقين باسم هذه الحركة: إن قرار إقامة بيت العزاء هذا قد جاء «وفاءً واعترافاً بدوره»، أي بدور قائد «فيلق القدس» في «الحرس الثوري»، في دعم المقاومة الفلسطينية!

 


وهكذا فإنه قد بات واضحاً أن «حماس» لم تعد معنية لا بالوحدة الوطنية الفلسطينية ولا بالعمل العسكري ضد إسرائيل، وأنها قد أصبحت ملحقة بإيران وبحلفها الذي يضم بعض الدول العربية، وأنها كما هو معروف كانت قد انسحبت وبعد ساعات قليلة من اتفاق مع الرئيس الفلسطيني محمود عباس (أبو مازن) جرى توقيعه بين يدي الملك عبد الله بن عبد العزيز (رحمه الله) بطلب من طهران ومن دولة قطر «الشقيقة» التي يقيم في عاصمتها «الأخ» خالد مشعل وغيره من زملائه وعلى الرحب والسعة.

 


لقد أصبحت حركة «حماس» جزءاً من تحالف دولي يشكل فيه الإيرانيون والأتراك القوة الرئيسية الفاعلة، والدليل القاطع هو أن إسماعيل هنية قد وصف قاسم سليماني وهو يقدم التعازي في طهران إلى علي خامنئي: بأنه الشهيد القائد الذي ضحّى من أجل فلسطين وشعبها، وأنه شهيد القدس! والواضح أنها، أي حركة المقاومة الإسلامية، سوف تكون أحد أرقام المعادلة «الإخوانية» التي عنوانها التدخل التركي العسكري في ليبيا والتي هي في حقيقة الأمر تستهدف مصر، وهذا يعني أنه غير مستبعد، لا بل المؤكد، أن هذه الحركة ستصبح جزءاً من هذا الحصار الذي هدفه استعادة حكم «الإخوان المسلمين» في أرض الكنانة.

 


وعليه وفي النهاية فإنه لا بد من أن تأخذ القيادة المصرية في اعتبارها أن «حماس» التي باتت «تنفرد» بالسيطرة على قطاع غزة قد تشارك في هذا الحصار الذي هو الهدف الرئيسي لتدخل إردوغان في ليبيا، ويقيناً أن حركة المقاومة الإسلامية هذه، التي أصبحت أحد أرقام المعادلة الإيرانية – الإردوغانية وبالطبع «الإخوانية»، إذا طُلبت منها المشاركة في أي تطور في هذا المجال فإنها لا تستطيع أن ترفض لأنها باتت مكبّلة بكل هذه التحالفات الإقليمية.