حتّى الأمس القريب، كان هناك من يدّعي أنّ لبنان ليس اليونان، وأنّ الإفلاس الذي واجهته اليونان بعيد من بلد الأرز. اليوم، تراجع منسوب التفاؤل، لكنّ الإشكالية قائمة في التعبير نفسه: لبنان ليس اليونان، وهنا يكمن الغموض غير البنّاء.
 

ليس مقبولاً بأيّ شكل من الأشكال أن يصل البلد الى المرحلة المتقدمة من الانهيار التي بلغها، من دون أن يبدأ الخبراء في دراسة مُعمّقة لتجارب الدول التي مرّت بأزمات مالية واقتصادية، واضطرت الى طلب «النجدة» من المجتمع الدولي للوقوف مجدداً على رجليها. ومن البديهي أنّ مراجعة دقيقة لما جرى في اليونان، وهو البلد الأقرب الينا الذي واجه أزمة افلاس، ستكون مفيدة، وتساعد ربما على حسم الجدل العقيم القائم حالياً: هل نستطيع أن نتجاوز الأزمة لوحدنا، ام علينا أن نطلب مساعدة خارجية؟ وما هو الثمن الذي قد ندفعه في الحالتين؟

 

مناسبة هذه المقاربة تقرير صدر حديثاً، يُلخّص أسباب الإفلاس اليوناني، ويروي «قصة» هذه المأساة، والأثمان التي دُفعت. الى ذلك، تُلخّص تقارير أخرى الوضع الحالي، وأحوال اليونانيين اليوم ومن خلال الاطلاع على مضمون هذه التقارير، سيشعر اللبناني ويدرك أوجه الشبه في أسباب الأزمة، وسيدرك أيضاً أوجه الاختلاف في إمكانات وفرص المعالجة، والفترة التي قد يستغرقها هذا الأمر.

 

يبدأ التقرير بسرد الميثولوجيا الاغريقية منذ العام 1981، حين كان الاقتصاد اليوناني في وضع جيد. نسبة الدين العام الى الناتج المحلي (GDP) 28%، والعجز في الموازنة أقل من 3% من الناتج. لكن الأوضاع الاقتصادية والمالية بدأت في التدهور منذ ذلك الحين، واستمرت طوال الأعوام الثلاثين اللاحقة.

 

في تشرين الاول 1981، وصل الى السلطة الحزب الاشتراكي الذي أسّسه أندرياس باباندريو في العام 1974. وفي العقود الثلاثة اللاحقة، تنافس على السلطة حزب باباندريو مع «حزب الديمقراطية الجديدة»، الذي تأسّس هو الآخر في العام 1974. وطوال هذه الحقبة، مارس الحزبان سياسة إبقاء المواطن الناخب سعيداً وراضياً. تقضي هذه السياسة بممارسة السياسة الزبائنية والحمائية، و«الكَرَم» من المال العام، من دون الأخذ في الاعتبار التداعيات المستقبلية لهذا النهج.

 

وهكذا أصبح موظفو القطاع العام يتمتعون بمزايا لا يستطيع الاقتصاد تحمُّلها، من ضمنها على سبيل المثال امكانية التقاعد للرجال في عمر الـ58 عاماً، وللنساء في عمر الـ50. وضمان راتب تقاعدي مرتفع. كما أنّ معدل الرواتب كان مرتفعاً قياساً بالاقتصاد. ويحصل موظف القطاع العام على 14 شهراً بدلا من 12. وراتب الموظف يرتفع سنوياً بشكل تلقائي (سلسلة الرتب) بدلاً من ربط زيادة الراتب بالإنتاجية والاداء.

 

يضيف التقرير: بسبب ضعف الانتاجية، وتلاشي التنافسية وانتشار التهرّب الضريبي (حوالى 30 مليار دولار سنوياً)، نما الدين العام بسرعة لضمان استمرارية نمط العيش برخاء على ما هو عليه.

 

في العام 2001 انضمت اليونان الى منطقة اليورو، وفُتحت أمامها ابواب أوسع للاقتراض، بعد اعتماد عملة اليورو بدلاً من الدراخما. وقد تدنّت كلفة الاقتراض الأمر الذي اعتبرته السلطات فرصة اضافية للحفاظ على نمط العيش نفسه، من خلال الاقتراض اكثر من الاسواق. في ذلك الوقت اصبح الفارق في سعر الفوائد على سندات الدين استحقاق عشر سنوات، بين السندات اليونانية والالمانية حوالى 50 نقطة اساس فقط، مقابل 600 نقطة اساس قبل اعتماد اليورو.

 

وبفضل الاقتراض الواسع، نما الاقتصاد اليوناني بمعدل 3,9% بين 2001 و2008، وهو ثاني أسرع نمو في منطقة اليورو بعد ايرلندا. لكن هذا النمو جاء على حساب تجاوز المعايير الاقتصادية والمالية المعتمدة في دول اليورو. وكان حجم الدين العام الى الناتج وصل الى 103%، في حين انّ السقف المُحدّد من قبل الاتحاد الاوروبي هو 60%. كذلك قفز العجز في الموازنة الى 3,7%، رغم ان السقف المُحدّد أوروبياً هو 3%.

 

عندما اندلعت الأزمة الاقتصادية العالمية العام 2008، ظهرت معالم الضعف في الاقتصاد اليوناني. وفي كانون الثاني 2012 كان الفارق في سعر الفوائد بين السندات اليونانية والالمانية استحقاق عشر سنوات، قد وصل الى 3300 نقطة اساس (كان 50 نقطة اساس في 2001). وقفزت نسبة الدين العام الى الناتج الى 180%، والعجز في الموازنة الى 12,7%.

 

في ختام التقرير، هناك خلاصة مفادها، انّ السبب الرئيسي في إفلاس اليونان، هو التبذير المالي من قبل حكومات متعاقبة، بما يؤكد انّ الدول لا تستطيع ان تعيش بما يتجاوز قدراتها، ولذلك اضطرت اليونان الى العيش في تقشّف قاسٍ لسنوات طويلة لكي تتعافى.

 

صحيح أن اليونان وصلت اليوم الى مرحلة من التعافي الاقتصادي، لكن معاناة الناس في اليونان لم تنته. وقد شهدت البلاد هجرة جماعية لجيل الشباب في سنوات التعافي التي امتدّت منذ 2011 حتى اليوم. وهناك لائحة من المشاكل القائمة حالياً، من أهمها الديون الهالكة التي لا تزال تضغط على البنوك اليونانية، وتقدّر نسبتها بـ45% من مجموع محفظة القروض. كما أنّ نسبة الضرائب لا تزال تُرهق المواطنين، والحسومات على رواتب المتقاعدين لا تزال قائمة.

 

وفي فترة محددة، أغلقت المصارف لفترة قصيرة، ومن ثم جرى تحديد سقف السحوبات بـ60 يورو يومياً. وتمّ وقف التحويلات الى الخارج. لكن، فتح الاعتمادات لزوم تنظيم الاستيراد استمرّ ضمن سقوف محددة وكافية لعدم القضاء على القطاع الخاص. وتغيرت عادات اليونانيين، خافوا على أموالهم في المصارف، راحوا يشترون السلع بلا حاجة اليها بهدف تسييل المال. ومن ثمّ راجت تجارة العقارات بواسطة شيكات مصرفية، الى جانب انتشار موجة بيع السيارات واقتناء دراجات نارية لتوفير ثمن المحروقات. وحتى الان، هناك جيل كامل اسمه جيل الـ300 يورو، في اشارة الى معدل الرواتب للشباب الراغب في التوظيف للمرة الاولى.

 

كلّ ذلك يحصل، رغم انّ اليونان حظيت بما يقارب الـ270 مليار دولار في خطة الانقاذ التي نُفذت على مراحل. وقد التزمت أثينا بكلّ الإصلاحات المطلوبة، وقامت بإجراءات موجعة طاولت الطبقتين المتوسطة والفقيرة. وعالجت مسألة التهرّب الضريبي، والعجز في الموازنة...

 

المشهد اليوناني يُفترض أن ترصده الحكومة اللبنانية الجديدة المنتظرة بتمعُّن شديد. وان ترصُد فريقاً لدراسته، لأنّه قد يوفّر الكثير من الجدل العقيم، ويُقنع من ينبغي إقناعه بالذهاب سريعاً نحو طلب خطة إنقاذ. واذا كان الرئيس المُكلف حسّان دياب حريصاً على النجاح في مهمته، عليه أن يبدأ من هذه النقطة، وأن يُحضّر اللبنانيين لما ينتظرهم، لأنّ لبنان ليس اليونان، ومعاناتنا للتعافي، خصوصاً اذا تأخرنا أكثر، ستكون أقسى وأصعب وأطول.