الولايات المتحدة باغتت إيران وقلبت قواعد لعبة عمرها عقود.
 

تراجعت منابر إيران خلال أقل من 24 ساعة عن التهديد برد مزلزل ساحق انتقاما لمقتل الجنرال قاسم سليماني، وباتت تهمس برد “مدروس” قد يجري الاتفاق حوله بالرعاية المعلنة للوسيط السويسري.

وفيما تهدد وستهدد الميليشيات التابعة لإيران في العراق ولبنان واليمن بالرد الموعود، فإن الرئيس الأميركي دونالد ترامب عاجل بالإعلان عن خطط واشنطن برد ساحق داخل إيران نفسها (52 هدفا مرصودا). وعليه فإن واشنطن تستعيد برشاقة زمام المبادرة، فيما تبدو طهران متخبطة مرتبكة، تستعين بترسانتها اللغوية، علّها تعوّض ما نال من هيبتها خلال الساعات الماضية.

تفوّقت الولايات المتحدة على العالم في ما تمتلكه من قوة اقتصادية هائلة، تقلق دولة عظمى كالصين وتجمعا دولي كالاتحاد الأوروبي، حين تلوّح بعقوباتها الاقتصادية. ذهبت الصين إلى اتفاق تجاري مع العملاق الاقتصادي الأميركي، فيما دول حلف شمال الأطلسي تذعن لمطالب ترامب برفع نسب مساهماتها في ميزانية الحلف العسكري الغربي، وتسعى دول أوروبية لإيجاد أرضية ترفع عن منتجاتها رسوم ترامب الجمركية الصاعقة.

لم يكن باستطاعة إيران أن تواجه العقوبات الأميركية المفروضة عليها. انهارت المكابرة، وبدأت كافة منابر النظام في طهران تعترف بأن العقوبات القاسية تخنق البلد. بدا أن طهران تخسر في هذه الساحة وبدا أنها تبحث للرد والدفاع في ساحات أخرى.

عملت إيران على استجداء مواجهة عسكرية ما مع الولايات المتحدة. اعتقدت أن إسقاط طائرة مسيّرة أميركية من أحدث طراز في العالم ومن أغلاها ثمنا بصاروخ بخس فوق مياه الخليج (يونيو الماضي)، سيستدرج ردا أميركيا يتيح لإيران الاستمتاع بنعمة الأزمة العسكرية مع الدولة الأكبر.

كان الهدف هو تحويل السجال من جدل حول برنامجها النووي وبرنامجها للصواريخ الباليستية ونفوذها “المزعزع للاستقرار في المنطقة”، وفق التعبير الأميركي الغربي، إلى انهماك دولي في كيفية إنهاء المواجهة العسكرية الثنائية على نحو يرفع إيران إلى مستوى الندية مع الولايات المتحدة، وبالتالي الذهاب إلى طاولة المفاوضين كمقاتلين يبحثون وقفا لإطلاق النار.

حاولت إيران تحقيق الأمر في الأشهر الأخيرة من خلال هجمات متعددة قامت بها ميليشيات عراقية موالية لطهران ضد القواعد الأميركية في العراق دون أن تحظى طهران بالمواجهة الأميركية الإيرانية الموعودة. بدا أن أذرعها في سوريا ولبنان مكبّلة بقرار دولي عام (تشارك به روسيا) يتيح لإسرائيل التعامل بحزم وحسم مع أي أخطار إيرانية تظهر هناك.

ويجوز القول إن طهران كانت تسلك منهجا صحيحا متكئة به على قواعد لعبة اعتادت عليها خلال العقود الماضية.

منذ أزمة الدبلوماسيين الرهائن في السفارة الأميركية في طهران، مرورا بخطف الرهائن وتفجير ثكنة المارينز في بيروت، انتهاء بتمدد النفوذ الإيراني في ميادين المنطقة، كانت إيران تلاحظ بتلذذ سلوكاً أميركيا يتراوح بين الانسحاب والتراجع والصمت البناء. حتى أن الولايات المتحدة التي لطالما وُصفت بـ”الشيطان الأكبر” في أدبيات “الثورة” الإيرانية، سعت في عهد الرئيس السابق باراك أوباما إلى عقد صفقة الاتفاق النووي مع إيران، والتي تشكل في خفاياها تسليماً بقدر جمهورية الولي الفقيه، وتحضّر لشراكة أميركية إيرانية لمّح إليها أوباما نفسه.

ليس ذنب قاسم سليماني أنه كان واثقا بالثوابت الأميركية التي تربى عليها منذ أن قامت الجمهورية الإسلامية عام 1979. الرجل كان يتحرك بكل حرية يرسم خرائط الصراع في اليمن وسوريا والعراق ولبنان دون أي اعتراض من واشنطن. كان أمر الصمت الأميركي يشبه الرعاية الكاملة للتمدد الإيراني في كل المنطقة.

ولطالما قيل إن التواطؤ الأميركي الإيراني بات أكبر وأكثر صلابة منذ أن أفتى منظّرو المحافظين الجدد بأن السنّة، بعناوينهم المتعددة، باتوا إثر اعتداءات 11 سبتمبر منتجين للعداء الدائم للولايات المتحدة، فيما أن الشيعة، بعنوانهم الوحيد في إيران، هم حلفاء. سقط نظاما العراق وأفغانستان بالتعاون الكامل مع إيران، وهيمنت طهران على بغداد بتواطؤ كامل مع واشنطن.

بدا أن الولايات المتحدة أنهت “التعاقد” مع إيران. تغيّر الزمن وبات متجاوزا لحضور سليماني ومهماته. صار العالم بأجمعه يريد تجاوز “الاستثناء” الإيراني، وبالتالي تجاوز واقعة سليماني وميليشياته. يكفي تأمل مواقف الصين وروسيا، المفترض أنهما حليفان لإيران، كما تأمل موقف أوروبا، المفترض أنها متعاونة مع إيران، لنفهم أن مقتل سليماني هو قرار دولي نفذته مسيّرات أميركية.

نعم سيكون رد إيران مزلزلاً. لكن ذلك الرد سيكون مزلزلا بالنسبة لكل الحالة الإيرانية التي تمدّدت في المنطقة. ستذهب إيران إلى طاولة المفاوضات التي يمعن ترامب في مدّها بعد اغتيال سليماني. لا تملك إيران، بعد رفع الرعاية الأميركية الدولية لتمدّدها، إلا الذهاب مهرولة لعقد اتفاق مع إدارة ترامب، بالذات، صونا لنظام بدا أن تصفية سليماني تمثّل أعراض تهديد لبقائه.

كانت إيران تعوّل على عامل الوقت علّ المرشح دونالد ترامب يفشل في الانتخابات الرئاسية المقبلة لصالح منافس ديمقراطي يعيد إحياء إرث أوباما و”حنانه” تجاه إيران. كانت إيران تهدد ترامب المرشح بخيار عسكري لطالما وعد ناخبيه بتجنبه. بيد أنه وفي ليلة اغتيال سليماني، بدا أن واشنطن هي التي تستدرج طهران للحرب، وبدا أن ترامب المرشح بات يعتبر أن معركته مع إيران هي حصانه الرابح داخل حملته الانتخابية.

شيء ما حصل في واشنطن لم يعلمه سليماني فاجأ النظام، بحرسه ومحافظيه ومعتدليه في طهران. هو انهيار إيراني بامتياز. ولى عصر الثورة الإيرانية. من يقتل سليماني يملك أن يقتل كافة الرؤوس التي كانت تعمل تحت إمرته في كل المنطقة. ومن يقتل أكثر الجنرالات قربا من الولي الفقيه، يبلغ طهران بأن ما زعمته واشنطن من عدم وجود خطط لإسقاط النظام قد يصبح متقادما، وأن هيبة الولايات المتحدة في صراعها الطويل الأمد مع الأخطار الاستراتيجية الكبرى، لاسيما تلك التي تمثلها الصين مثلا، يستدعي إزاحة بيدق عن رقعة اللعب الكبرى.