لم يسبق أن أثار اغتيال سياسي على كثرة هذا النوع من الاغتيالات، ما أثاره مقتل الجنرال قاسم سليماني من ردود فعل شملت العالم بأسره، ولأن الصدمة كانت مفاجئة وشديدة القسوة، فإن ردود الفعل على صعيد «أهل الفقيد» أولاً جاءت مهتاجة وفي حالات عديدة خارج المنطق المألوف.


أما على صعيد القوى الإقليمية والدولية ذات الصلة بالوضع الإيراني وامتداداته وساحات عمله، فقد جاءت مواقفها المعلنة متحدة على مصطلح يُستخدم عادةً في ظروف من هذا النوع «التحذير من التصعيد والطلب من كل الأطراف ضبط النفس».
عملية اليوم التالي التي نفّذتها أميركا في بغداد وراح فيها ضحايا قبل أن يشيّع المهندس وسليماني، أشارت إلى أن إدارة ترمب في غير وارد الإصغاء لدعوات ضبط النفس، بل إن لها تفسيراً خاصاً لهذا المصطلح، هو الامتناع حتى الآن عن الدخول في حرب شاملة مع إيران بما في ذلك ضرب أهداف حيوية بداخلها، أي في أي مكان تطاله الآلة الحربية الأميركية.


وعلى الجانب الأميركي يبدو أن الدولة العميقة التي يقف على رأسها ترمب تعودت على مفاجآته، وقبلت ولو على مضض تجاوزاته للمؤسسات التي حكمت السياسات الأميركية داخلياً وخارجياً، وكان لها رأي حاسم حتى في الأمور الأقل من الذهاب إلى حدود الحرب، فالمؤيدون لأي قرار يتخذه الرئيس تنازلوا عن حقهم في المعرفة المسبقة، أما المعارضون فيكتفون بالتنديد ضمن حدود ما يخدم سجالهم الداخلي مع وليس بما يعيق تنفيذ سياساته وقراراته، ومثلما تعود الأميركيون على طريقة رئيسهم في العمل واتخاذ القرارات فإن على أصدقائهم وحلفائهم التعود على ذلك.


بالنسبة إلى العراق اختارت إدارة ترمب أن يكون هو الساحة الأسخن لترويض الخصم الإيراني، ما وضع الطبقة السياسية الحاكمة هناك أمام إحراجات لها أول وليس لها آخر... معنوياً فإن معظم إن لم يكن جميع وجوه وأركان هذه الطبقة ما كان لهم أن يصلوا إلى سدة الحكم لولا التبني الأميركي لهم حد نقلهم على أجنحتها إلى البلد الذي كانوا محرومين من مجرد زيارته.

 

ما عملياً فإن العراق الآن موزع بين حراك شعبي مليوني أفضى حتى الآن إلى ما يشبه الفراغ في السلطة وبين ولاء مكلّف وقسري للجار الإيراني الذي لا يتساهل في أمر التبعية المطلقة له ولا يسامح من يخرج عن أجنداته ولو بالتظاهر، وهذا الحال الذي وصل إليه العراق تتحمل إيران جزءاً مهماً من المسؤولية عنه، وهذا في حد ذاته ما يغري رجلاً مثل ترمب ليس فقط على استخدامه بل وللذهاب به إلى حد جعله أرضاً محروقة.
وبالنسبة إلى إيران، فلم يُحسن الجنرال قاسم سليماني الاستفادة من مواهب حسن نصر الله في حماية الذات، ذلك إن قائد الفيلق الخارجي الثاني الرديف لـ«فيلق القدس»، كان وعلى مدى سنوات طويلة الهدف الأول للاغتيال عند إسرائيل.

 


لقد نجح حسن نصر الله في الإفلات ومواصلة العمل مع أن إسرائيل تقف على بُعد أمتار من مجاله الحيوي الضيق الممتد من الضاحية الجنوبية في بيروت حتى بوابة فاطمة على الخط الإسرائيلي مباشرةً.
الفرق بين التوأم سليماني ونصر الله أن الأول اعتمد على الاعتبارات لتوفير حمايته، فلقد كان متأكداً من أن أميركا لن تجازف بقتله خوفاً من ردود الفعل، فاحتمى بهذا الاعتبار، ذلك على عكس نصر الله الذي نحّى كل الاعتبارات جانباً واعتمد على الترتيبات. ودعونا نعتبر هذا الجانب على أهميته ليس بالأمر الحاسم بالنسبة إلى جنرال عُرف عنه أنه يستعذب الشهادة.

 


ما لوحظ عبر كثافة التهديدات الإيرانية المنبثقة عن التجرؤ الأميركي على الكبرياء الإيرانية أنها تنطلق من فرضية اعتبار الوجود الأميركي في المنطقة رهينة محاصرة بقبضة إيرانية قوية تطبق عليه من كل الاتجاهات.. لا شك في أن إيران وأذرعتها المنتشرة في أكثر من مكان تمتلك إمكانيات جدية لمقارعة أميركا وإزعاجها وحتى استنزافها وتهديد مصالحها، إلا أنها وربما تفادياً لتخويف الذات والأذرع، تتجنب كلياً مجرد الإشارة إلى القدرات الأميركية في الرد وحتى الردع، وهذا أمر وإن كان يصلح إعلامياً ووفق متطلبات تقوية الحصانة المعنوية، إلا أنه يتنافى مع بدهيات الحسابات التي لا بد منها حال التورط في حرب كبرى، وما يزيد الحاجة إلى تغليب هذه الحسابات هو أن تكون الولايات المتحدة طرفاً مباشراً.

 


مطلوب من الإيرانيين ليس هضم ما لا يمكن هضمه ولا الإذعان لمعادلة القوة الأميركية المتفوقة، فهذا أمر لا قِبل لهم به بل ويتنافى مع الأدبيات التي بُني الوعي الإيراني عليها منذ اندلاع ثورة الخميني حتى أيامنا هذه، بل المطلوب دقة في الحسابات ودقة في اختيار ساحات المواجهة ودقة كذلك في حجم الرد، ذلك إن المعركة الراهنة وفي حال فقدان السيطرة مما قد يؤدي إلى اتساعها، فإن الفرز المتسرع بين معسكر «المع» و«الضد» سيكون وبالاً على أهل المنطقة أكثر منها على الأميركي.

 


أما بالنسبة للأذرع، فهذا واقع تتعين قراءته بدقة وموضوعية، فالأذرع الإيرانية جميعاً ليست مالكةً درجةً كافيةً من الاستقلال وحرية الحركة، حتى «حزب الله» والحوثيون وغيرهم هم أجزاء في معادلات وليسوا المعادلات كلها؛ كانوا فعالين في حروبهم لأنهم تجنبوا المواجهة المباشرة مع أميركا، وهنا ينبغي أن تختلف الحسابات وأن تتخذ منحى آخر.

 


ظهر في ساعات الصدمة الأولى مصطلح إشعال المنطقة، وهذا المصطلح وإن كان يقلق أهل المنطقة الذين لا ناقة لهم ولا جمل في مقتل سليماني إلا أنه يقرع جرس إنذار في غرف صناع القرارات من القوى الأكبر من إيران، تلك القوى التي تعمل على إنضاج مصالحها وفق حساباتها وليس وفق اشتعال قام به غيرهم.
كانت الصدمة شديدة ومؤلمة إلا أن ما يحتاج إليه الجميع هو دقة الحسابات وواقعية القرارات.