حين أسقط العراقيون كل المعادلات القديمة التي كانت عبارة عن صفقة تسوية بين أميركا وإيران، اضطربت العلاقة الهشة بينهما. انتهت الهدنة التي كان العراق ساحتها ودُقت طبول الحرب
 

العراقيون خائفون. “سيكون العراق ساحة تصفيات” جملة صار يرددها العراقيون وهي أشبه بالمزحة. فمتى لم يكن العراق كذلك؟

 

لقد احتله الأميركان ولم يكونوا في حالة صلح مع الإيرانيين، غير أنهم استعانوا بهم وهو ما يقوله الإيرانيون بفخر كما لو أنهم حرروا العراق. بعد ذلك اتضح أن الاحتلال الأميركي كان جسرا عبر عليه الإيرانيون ليصلوا إلى العراق ويكونوا سادته الذين يخططون أن تكون بغداد عاصمتهم الأبدية.

 

لم يختلف الإيرانيون والأميركان على شيء في ما يتعلق بالعراق. لقد تقاسموا النفوذ والثروات ولم يبق أمامهم سوى مستقبله الغامض.

 

وحين فتح جيل عراقي جديد عينه على الكارثة أدرك أن المكان الذي يعيش فيه لم يعد صالحا للعيش إلا بعد تأثيثه من جديد. ولكنها فكرة ليست سهلة المنال. عليك أن تقتلع كل شيء لتبني من جديد من أجل أن يكون ذلك المكان صالحا لكي يُسمّى وطنا. فالوطن ليس بقعة الأرض وحدها بل هو الإنسان أولا، بصفاء وبراءة سريرته.

 

ولا أبالغ إذا ما قلت إن كل عمليات التخريب الثقافي التي قام بها الأميركان والإيرانيون مجتمعين من أجل تدمير النزعة المدنية في المجتمع العراقي انتهت إلى الفشل حين خرج الشباب إلى الساحات، يجمعهم نداء وحدة الوطن. ولم تكن وحدة ترابه هي المقصودة هذه المرة، بل وحدة مجتمعه.

 

وهو ما يعني إسقاط نظام الطوائف الذي أقامه الأميركان ورعاه الإيرانيون، كونه الوسيلة الوحيدة التي تمكنهم من السيطرة عليه متعادلين. أما وقد أسقط العراقيون كل المعادلات القديمة التي كانت عبارة عن صفقة بين الطرفين، فقد اضطربت العلاقة الهشة بينهما. لقد انتهت الهدنة التي كان العراق ساحتها ودُقت طبول الحرب.

 

الطرفان خائفان على مصالحهما في العراق، لكن كل واحد منهما يرعى تلك المصالح بطريقته الخاصة. ولأن النظام الإيراني كان مطمئنا أكثر من الولايات المتحدة إلى أن العراق صار من حصته، فقد ارتكب بسبب استعلائه على الواقع الخطأ الذي يمكن أن يجره إلى الحرب.

 

إلى وقت قريب كانت إيران حريصة على ألّا تتورط في حرب، تكون شبيهة بحرب العراق عام 1991. ستخرج منها خاسرة ومدمرة. هذا صحيح. ولكنها قد تؤدي إلى سقوط النظام.

 

لذلك كانت حذرة وهي توجه ميليشياتها بالمطالبة برحيل القوات الأميركية من الأراضي العراقية ليخلو لها الجو ولتتمكن من إنهاء الانتفاضة الشبابية وفق وصفتها المعروفة. القمع السريع والقتل المبالغ فيه.

 

غير أن تلك الميليشيات وقعت في المحظور. وكان على الرئيس دونالد ترامب أن ينفذ وعده في هذا الوقت الحرج. لقد كان الثأر الأميركي مطلبا شعبيا أميركيا، لا يمكن لرئيس دولة عظمى أن يغض الطرف عنه.

الغباء هذه المرة كان إيرانيا ولأول مرة تتصرف الولايات المتحدة بذكاء استثنائي في العراق منذ عام 2003.

 

سيكون من الصعب إرجاع عقارب الساعة. فما حدث لا يمكن التراجع عنه بالنسبة للولايات المتحدة، أما الخوف من الثأر الإيراني فهو لا معنى له.

من السذاجة اعتبار اغتيال قاسم سليماني وأبومهدي المهندس ردا مباشرا على الاعتداء على السفارة الأميركية ببغداد. كانت الرسالة الأميركية واضحة. لا مكان لكم في العراق الذي ينادي شبابه برحيلكم وانتهاء هيمنتكم أيها الإيرانيون. وكما أرى فإن الولايات المتحدة التي لم تعلن تأييدها للاحتجاجات في بغداد والمدن العراقية الأخرى قالت كلمتها أخيرا.

 

ستراقب الإدارة الأميركية ما يجري من تحولات على مستوى القيادة العراقية بعد الضربة الموجعة. غير أنها لن تتراجع عن احتواء العراق في ظل تحولات المزاج الشعبي المعادي لإيران.