ربما لم يقرأ الملالي تصريح عضو مجلس الشيوخ النافذ، السيناتور ليندسي غراهام، كما أنهم بكل تأكيد وتحديد لم يأخذوا تهديدات الرئيس دونالد ترمب على محمل الجد، وها هي المحصلة، سقوط الطير الإيراني الثمين، المتمثل في قائد «فيلق القدس»، الجنرال اللامرئي، قاسم سليماني، ومن معه من قيادات عراقية الهوية، إيرانية الهوى.
 

لن يضحى العراق بنغازي جديدة، هكذا أشار غراهام في إشارة لا تخطئها العين لعملية اغتيال السفير الأميركي في ليبيا، كريستوفر ستيفنز، في 11 سبتمبر (أيلول) 2012.
 

الجالس في البيت الأبيض هو دونالد ترمب «الوايت أنغلوساكسون بروتستانت»، الذي لا يقبل أي مواءمات مع جماعات الإسلام السياسي، أو السعي إلى اتفاق سيئ السمعة مع إيران، كما سلفه باراك أوباما، الرجل الذي لو قدر لنايجل هاملتون، كاتب السيَر البريطاني الأشهر أن يضيف سيرته لكتابه «القياصرة الأميركيون»، لوصفه بأنه «من لعنه الأميركيون لاحقاً».
 

قبض ترمب على الجمر هذه المرة، ما يذكرنا بسابقة تاريخية تعرف باسم «براينغ مانتس»، جرت وقائعها في أبريل (نيسان) من عام 1988؛ حين أهلكت القوات الأميركية نصف الأسطول الإيراني، رداً على لغم أصاب الفرقاطة الأميركية «صمويل روبرتس»، في مياه الخليج.
 

كان لتهديد ترمب أن يجد طريقه سريعاً، غير أنه هذه المرة كان الصيد ثميناً جداً، إنه الرجل الأخطر في الشرق الأوسط، صاحب اللقب الشهير «قائد فيلق القدس»، مع أن الراوي يقول إنه لم يره أبداً في «طريق الآلام» سائراً متألماً مع جماهير الفلسطينيين المنكوبين، ولا عرفه أحدهم في شوارع القدس العتيقة زائراً على الأقل وليس محرراً، في حين أن مدن العراق وسوريا لم تخلُ من صوره صباح مساء، سنوات العقد الماضي.
 

حين أصدر ترمب توجيهه الرئاسي إلى البنتاغون للاقتصاص مما جرى للسفارة الأميركية في بغداد، والذي لم يبلغ إلى درجة ما شهدته بنغازي، أو سفارة واشنطن في طهران عام 1979، كان يدرك أنه سيقتنص الصيد الإيراني الأثمن، والرجل الذي عمل جاهداً على إعادة تشكيل الشرق الأوسط لصالح إيران، فمن اغتيال الأعداء، إلى تسليح الحلفاء، كان سليماني يعمل كوسيط أحياناً، وكقوة عسكرية أحياناً أخرى، ولأكثر من عقد كان عمله توجيه الشبكات الشيعية المسلحة داخل العراق، وبناء قوة «حزب الله» في لبنان، وجماعة الحوثي في اليمن، وحتى دعم أبرز حركات المقاومة الإسلامية في فلسطين كـ«حماس» و«الجهاد الإسلامي».
 

صنفت واشنطن سليماني إرهابياً من قبل، كما فرضت عليه الخزانة الأميركية عقوبات، بينما أعين البصاصين الأميركيين وكبار رجال عسسهم شاهدوه كثيراً في مواقع عدة، ولم تشأ واشنطن استهدافه من قبل، إلا أن مقتل المقاول الأميركي ومهاجمة قواعد أميركية في الأسابيع الأخيرة، جعلا منه هدفاً مطلوباً على عجل، الأمر الذي جرت به المقادير على بوابة مطار بغداد الجريحة، التي أضحت أرضها ميداناً لحروب أممية، وتدخلات خارجية؛ بل وصراعات عقائدية.
 

تقول التقارير الاستخباراتية التي كانت الأساس الذي بنى عليه الرئيس الأميركي قراره، إن سليماني كان قد رتب أوراقه لاستهداف مزيد من الأميركيين، أفراداً ومؤسسات، في العراق والشرق الأوسط، وعليه لم يكن هناك مجال لرفاهية الانتظار من قبل الجانب الأميركي، لا سيما بعد المظهر السيئ لاقتحام السفارة، وكسر الهيبة الأميركية أمام شعبها وأمام العالم، ما وضع القيادة الأميركية أمام اختبار يتطلب الرد السريع، وهو ما حدث بالفعل، باعتبار أنه نوع من أعمال التكتيك الدفاعي الاستباقي الذي يحفظ أرواح الأميركيين وممتلكاتهم في منطقة مشتعلة بالفعل.
 

ضرب البرق الأزرق سليماني، بسرعة ودقة عاليتين، وإن كان ذلك لم يتم إلا عبر اختراق استخباراتي على أعلى مستوى، في الدائرة الضيقة المقربة من سليماني نفسه، بدليل معرفة موعد وموقع الوصول بهذه الدقة، التي سمحت لصواريخ العم سام بإعمال مشرطه الجراحي بدقة فائقة.
 

السؤال هنا: إلى أين ستمضي إيران بعد أكبر لطمة وصفعة وجهت إليها في العقد الأخير، وربما سابقه؟
من خلال ردات الفعل الإيرانية الأولية، يمكن للمرء أن يذهب إلى أن الملالي ماضون في طريق الانتقام، ما يفهم من تصريحات وزير الدفاع الإيراني، ورجال مثل حسام الدين آشنا، مستشار الرئيس الإيراني حسن روحاني، الذي صرح بأن من يتجاوز الخطوط الحمراء لإيران فعليه تحمل التبعات.
 

بينما محسن رضائي، أمين مجمع تشخيص مصلحة النظام، والقائد السابق لـ«الحرس الثوري» يؤكد أن إيران سوف تنتقم بشدة من الولايات المتحدة لمقتل سليماني.
 

هل علينا أن نصدق هذه التصريحات مرة وإلى الأبد، وخصوصاً في ظل ما تقوم به إسرائيل طوال العامين الماضيين من دك لقواعد إيرانية في سوريا والعراق أسبوعياً، بينما إيران تتفرج ومن غير إطلاق رصاصة واحدة على الحدود الإسرائيلية، كما حالها منذ أربعين سنة؟
 

الفطنة تعلمنا أن نترك هامشاً للشك، غير أن ما لا يتعارض مع أبجديات المنطق هو إدراك إيران لفكرة «ميزان الانتباه العسكري»، بمعنى أن أي تهور استراتيجي إيراني، يمكن أن يقابل بردات فعل أميركية لا تصد ولا ترد؛ ردات يمكن أن تصل إلى العمق الإيراني، ما ينقل المعركة إلى داخل الإطار الجغرافي للملالي، الأمر الذي يحاولون تجنبه قدر المستطاع، وجعل المعركة تجري خارجاً.
هل جهوزية واشنطن تدفعنا لليقين بأن لديها سيناريوهات اليوم التالي؟
 

من يحلل تصريحات وزير الدفاع الأميركي مارك إسبر، عطفاً على رصد تحركات قطع الأسطول الأميركي، التي أخلت مواقع كثيرة في بحر الصين وشرق آسيا وتوجهت إلى منطقة الخليج، يدرك أن هامش مناورات إيران يضيق؛ بل يضيق جداً.