المنتفضون في ساحة الاعتصام ببغداد أكثر وعياً بمصالح العراق من السياسيين في دعوتهم إلى تفويت الفرصة على أصحاب المكامن والمنافقين والتصرف بحكمة، وإلى التمسك بأهدافهم السياسية وعدم إضاعتها في لجة الفوضى التي يراد جرّ العراق إليها.
 

عملية نوعية كبيرة تلك التي قتلت الجنرال قاسم سليماني في لحظة خروجه من باب الشحن الجوي للتمويه في مطار بغداد، قبل أن يدخل العاصمة العراقية ويكون لاستهدافه داخلها ضحايا من المدنيين. هذه العملية كما وصفها فيليب سميث الخبير الأميركي في الجماعات المسلحة الشيعية بأنها “أكبر عملية تصفية على الإطلاق تنفّذها الولايات المتحدة منذ تلك التي قتلت فيها أبوبكر البغدادي أو أسامة بن لادن”، زعيمي تنظيمي داعش والقاعدة.

 

لاقت عملية قتل سليماني الموصوف أميركيا بالإرهابي ومعه أبومهدي المهندس ارتياحا شعبيا عراقياً واسعا خصوصاً بين صفوف عوائل شهداء انتفاضة أكتوبر 2019، واعتبروها انتقاما لدماء أولئك الشهداء حيث يعتقدون بأن مسلسل القتل والاختطاف كان ينفذ بناء على برنامج أشرف عليه سليماني وأذرعه لتعطيل الانتفاضة عن تحقيق أهدافها في التغيير السياسي الذي سيؤدي إلى تخفيف أو إزاحة الاحتلال الإيراني في العراق.

 

ردود الفعل العراقية الرسمية والحزبية الموالية لطهران لا تتعدى الإدانة أو الدعوة لإخراجهم من العراق صدرت بداية من برلمان مشلول أعلن رئيسه بأن الاستهداف الأميركي انتهاك للمواثيق الدولية.

 

كما من المتوقع أن يحصل تورط بهجمات على المصالح الأميركية في العراق تقوده ميليشيات تابعة لإيران أطلقت بياناتها التهديدية، وسط انقسام في صفوفها، فبعضها قلق على المكاسب والغنائم التي حصل عليه خصوصاً بعد نهاية حرب داعش 2017، أما الفصائل الموالية عقائدياً لخامنئي فلا تجد أمامها سوى تنفيذ ما يطلب منها من قبل قائد فيلق القدس الجديد إسماعيل قاآني الذي لن يكرر شخصية ومكانة سليماني المقتول.

 

دعوة إخراج القوات الأميركية من العراق التي تشكل المطلب الرئيس للميليشيات بإصدار قرار في البرلمان لن يكون سهلا وليس بيد البرلمان حيث هناك ضوابط دولية للاتفاقية الأميركية العراقية التي هي لصالح العراق الذي يتعرض لمخاطر استراتيجية أمنية خطيرة.

 

ففي رد فعله دعا الزعيم الشيعي مقتدى الصدر إلى إحياء “جيش المهدي” بأدواته العسكرية بعد أن حلّه منذ سنوات قليلة قبيل حرب داعش 2017، تبعا لما وصفها بمسؤولية الدفاع عن العراق دون أن يحدد ضد من.

 

فيما حذر رئيس الحكومة المستقيلة عادل عبدالمهدي من حرب مدمرة في العراق والمنطقة والعالم، وهو الذي لم يتخذ خلال ولايته ما يبعد العراق عن شبح تلك الحرب عن طريق جعل البلد مستقلاً بإرادته. أما رئيس الجمهورية (برهم صالح) فقد توافق مع موقف المرجعية الشيعية الداعية إلى ضبط النفس.

 

في المقابل فإن القوى السياسية التي تصف نفسها بالمعارضة لم تتجاوز مواقف التنديد والمطالبة بضبط النفس، غير أن إياد علاوي خرج بموقف وصف بأنه خارج الصفيح الملتهب حيث دعا إلى عقد مؤتمر إقليمي يقود المنطقة إلى السلام.

 

إزاء هذه المواقف، كان المنتفضون الشباب في ساحة الاعتصام ببغداد أكثر وعياً وانتباهاً لمصالح العراق العليا من السياسيين في دعوتهم إلى “تفويت الفرصة على أصحاب المكامن والمنافقين” والتصرف بحكمة، وإلى التمسك بأهدافهم السياسية وعدم إضاعتها في لجة الفوضى التي يراد جرّ العراق إليها.

 

فقبل تصفية سليماني ساد شعور واهم لدى حكام طهران بأن ترامب في أضعف مراحل حكمه وهو غير قادر على الرد حتى وإن تم تنفيذ عملية اقتحام ودخول للسفارة الأميركية ببغداد وقتل أو احتجاز رهائن أميركان على غرار عملية طهران عام 1979، ما سيؤدي إلى ذات التداعيات التي حصلت بهزيمة جيمي كارتر وفوز دونالد ريغان بالرئاسة أو حادثة مقتل السفير الأميركي في ليبيا عام 2012 التي أطاحت بالمرشحة الديمقراطية هيلاري كلنتون، لكن ردّ الرئيس ترامب من خلال هذه العملية العسكرية باستهداف الرأس الإيراني سليماني في المنطقة أعاد ترتيب قواعد اللعبة لصالحه داخل الولايات المتحدة وفي منطقة الشرق الأوسط، وهو يدعو طهران بعد الضربة إلى خيار السلام من موقعه كمنتصر.

في بنيان المنظمات الميليشياوية وقواعدها يكون للقائد دور مفصلي في فعالياتها، والجنرال سليماني أصبح دوره، خصوصاً، في العراق خارجاً عن مألوف القادة العسكريين خارج بلدانهم حتى في أوقات الحروب التي دائماً ما تكون ميدانية، وقد أناط به زعيمه خامنئي مهمة إدارة ورسم السياسات الإيرانية في العراق لدرجة أن سفراء طهران في العراق ولبنان وسوريا تابعون للحرس الثوري لا الخارجية الإيرانية.

وتحول بفضل ما نسجه الإعلام التابع للميليشيات في العراق إلى أسطورة طائفية، وإلى فاتح يقتل الأبرياء ويتجول متشفياً فيهم بالمحافظات العراقية المنكوبة، متجاوزاً دور القائد الميداني والسياسي إلى رأس غير اعتيادي يدير العمليات المالية الكبرى غير المشروعة من تايلاند وصولا إلى نيجيريا. لذلك تشكل نهايته الدرامية صدمة كبيرة لرأس النظام حتى وإن كابر بتوعده وجميع أنصاره في إيران والعراق بالانتقام.

وفي تفاعل مع الحدث دعت بعض الأصوات العراقية النزيهة والبعيدة عن المؤثرات الخارجية إلى اعتبار قصة موت الجنرال الإيراني في العراق فرصة لإنهاء جميع محاولات جعل العراق ساحة للنزاع الإيراني الأميركي الذي يستهدف ترامب من وراء تفصيلاته اللوجستية والسياسية إرغام طهران على الإذعان للمفاوضات.