كم يشبه خبر موت الإعلامية اللبنانية نجوى قاسم خبر فقدان خالة حنون أو عمّة كريمة، كم يشبه خبر رحيلها فقداننا فرداً من عائلتنا أو شخصاً عزيزاً اعتدنا على وجوده لسنوات طويلة في حياتنا، ومن ثم فقدناه فجأة، لنعيش هول فاجعة أدمعت عيوننا وأدمت قلوبنا.

 

فتلك التي قرأت لسنين وسنين أخبار الفرح والحزن، الحرب والسلام، وأخبار الإنجازات والنكسات، ورحيل آخرين وإنجازاتهم، تمدّدت فوق صفحاتنا على السوشل ميديا تقرأ بصوتنا خبر رحيلها ومقاطع رثائها... وتلك التي شغلت نشرات الأخبار لعشرات السنوات، رحلت بالأمس بلا مقدّمات وبلا كاميرات وميكروفونات، وأدخلتنا مباشرة في قسوة الخبر وبشاعة الصورة، فأصبحت الحدث في العواصم العربية، وأصبح موتها الخبر التي لم تتأكّد هي من مصدره ومن حقيقته، رحلت وتركتنا وحيدين نحاول تكذيب خبر موتها وإقناع أنفسنا أنّه مجرّد إشاعة، ولكن كرسيها الفارغ أمام الكاميرا ورث موضوعيتها عنها، وأكّد لنا أنّ نجوى التي أدمنت آذاننا على صوت ضحكتها على الهواء صمتت إلى الأبد.

 

الزميلة نجوى قاسم، والأستاذة، والإعلامية، والملهمة، والإنسانة نجوى قاسم استثمرت شجاعتها على مدى سني عملها لتغطّي أشرس الحروب في العالم العربي، فنزلت إلى الخطوط الأمامية في حروب لبنان والعراق وأفغانستان، وخاوت القذائف والقنابل والرصاص لتنقل أخبار الموت والدمار إلى كلّ بيت لبناني وعربي. ومن معارك الأرض كانت تنتقل إلى معارك الاستديوهات لتخوض معارك الإعلام بترسانتها الكبيرة من الموضوعية والمهنية والروح الإنسانية والوطنية، فاحتضنت حقوق الإنسان أولاً في جعبتها ودافعت بكامل أسلحتها عنه، وأبقت لبنان طوال المشوار في قلبها، وكانت كلّما تقرأ خبراً مفرحاً عن وطنها تضحك من قلبها، ومع كلّ خبر محزن كانت تنهمر عيناها بالدموع.

 

نجوى قاسم التي هربت من أمراض الإعلام اللبناني، وجدت نفسها فريسة لمرض من نوع آخر، مرض الغربة والحنين والوحدة. وبعد انتقالها من قناة «المستقبل» التي عملت فيها 11 عاماً من عام 1993 حتى 2003، انتقلت إلى دبي للعمل في قناة «العربية» و«العربية الحدث» منذ عام 2004 حتى الأمس، وكان جميع المقرّبين منها يعرفون كم كانت سنوات النجاح في الإعلام العربي صعبة عليها أيضاً، لأنها كانت دوماً تشعر بالخسارة في تواجدها خارج لبنان.

 

رحلت نجوى قاسم بعد صراع طويل مع البلد، بعد صراع طويل مع الغربة، بعد صراع طويل مع الحنين إلى بيروت المنتفضة على جلّاديها، وصراع طويل مع فساد الحكّام الذين أجبروها على الرحيل. ونجوى التي خانها الوقت قبل أن تشهد على ولادة لبنان جديد، لا يسمح بموت إعلامي أو إعلامية في الغربة، ونجوى التي خانها الوقت قبل أن تقرأ خبر خلاص لبنان من سارقيه ومفسديه، كانت مواكبة للوضع اللبناني على المستوى الشخصي، وكأنّها برحيلها قالت لنا أنّ الوقت أيضاً يمكن أن يخوننا، فيجب ألّا نتراجع أو نهادن أو نستسلم، فكلّما تأخّرنا من تحقيقه اليوم يمكن أن يموت زخمه غداً.

 

كم نتمنّى أن يكون خبر موت الإعلامية نجوى قاسم مجرّد خبر فردي، لكنّه للأسف خبر حياة وموت عشرات آلاف اللبنانيين المنفيين قسراً عن لبنان، بسبب إبداعهم وأحلامهم وطموحاتهم. فكم من لبناني ولبنانية هاربين من رائحة الموت والجوع في لبنان يشتاقون يومياً إلى رائحة تراب الوطن، حتى ولو كان تراب مقابرهم. وكم من إعلامي وإعلامية لبنانية يقضون حياتهم في الغربة ويخشون اليوم الذي تُستقبل فيه جثامينهم في مطار بيروت.