إذا كانت ثورة 17 تشرين من أبرز أحداث 2019 وما نتج منها من تحولات أدّت إلى سقوط حكومة العهد الثانية وأسّست لحالة لبنانية جديدة، فإنّ العام المنصرم كان من أسوأ ما عرفه الوزير جبران باسيل منذ انخراطه في الشأن العام.
 

يُفترض أن يكون باسيل قد ودّع عام 2019 بفرح عظيم وهو يردّد «تنذكر وما تنعاد»، لأنّه لم يكن يتوقع ان يصيبه ما أصابه من تدمير لصورته وضرب لأهدافه السلطوية وتحديداً الرئاسية، وهذا لا يعني أنّ السنة الحالية ستكون أفضل بالنسبة إليه، في ظل استمرار مفاعيل الزلزال الذي أصابه، إلّا انّه استوعب الصدمة الأولى أو بالأحرى اعتاد عليها ويتكئ على التطورات والوقت في محاولة لاحتواء الوضع والحدّ من أضراره.

 

وتيمنّاً بمقولة سياسي عتيق، إنّ أحدا لا ينتهي دوره السياسي طالما انّه على قيد الحياة ربطاً بالتحوّلات في السياسة والأمزجة الشعبية، فإنّه لا يمكن الكلام عن انتهاء دور باسيل، ولكن لا يمكن إغفال أيضاً انّ هدفه الأساس، المتمثل برئاسة الجمهورية والذي بنى عليه خططه وتحالفاته وكانت كل سياساته موجّهة رئاسياً، انتفى إلى غير رجعة ربطاً بمستويات أربعة متداخلة بعضها مع بعض:

 

ـ أولاً، على المستوى الرئاسي: الانتكاسة الكبرى التي أصابت العهد كانت بسبب تبديته أولوية خلافة باسيل للرئيس ميشال عون في رئاسة الجمهورية على أولوية إنجاح العهد، وقد جاءت التطورات الأخيرة لتُسقط هذا المسعى وتضع العهد في وضع صعب. فلا هو نجح في تأمين خَلَفه الرئاسي، ولا نجح أيضاً في نقل الناس من واقع سيئ إلى واقع أفضل، بل انتقلت من واقع سيئ إلى واقع أسوأ.

 

وأكثر ما شغل الصحافة والرأي العام في النصف الأوّل من ولاية الرئيس عون كان موضوع الخلافة الرئاسية الذي تطلّب من باسيل خوض المواجهات في كل الاتجاهات بحثاً عن مشروعية سياسية، ما أدّى إلى حقن الناس وتعبئتها وانفجار غضبها ضدّه تحديداً. وتكفي المقارنة بين سلوكه قبل 17 تشرين الأول وبعد هذا التاريخ. وبالتالي لولا عدم مبالغته لما وصلت الأمور إلى ما وصلت إليه، وهو يدفع ثمن استعجاله لاستحقاق يتأمّن بالتحالفات الداخلية والتقاطعات الخارجية، فضلاً عن انّ الناس لم تستطع ان تتحمّل اجتياحه ليومياتها على مدى ثلاث سنوات وانخراطه في مواجهات متواصلة في الأمور الصغرى والكبرى.

 

فهذا الهدف الرئاسي الذي أنهك العهد لم يعد في متناول اليد، وآخر شخص يمكن ان يخلف عون في الجمهورية اللبنانية هو باسيل، الذي عليه أولاً ان يبقى على قيد الحياة سياسياً قبل ان يعيد جدولة أهدافه.

ـ ثانياً، على المستوى السياسي، ارتكز عون لانتخابه رئيساً للجمهورية على «القوات اللبنانية» مسيحياً و«حزب الله» شيعياً و«المستقبل» سنّياً، ولم يواجه انتخابه بمعارضة «الحزب التقدّمي الإشتراكي» درزياً وحركة «أمل» شيعياً، فيما الهدف الذي كان يعمل عليه باسيل رئاسياً يتمحور حول استبعاد «القوات» والارتكاز على الثنائي الشيعي والرئيس سعد الحريري واستبدال المختارة بخلدة. ومع انتقال العلاقة بين الحريري وباسيل من مرحلة «الزواج الماروني» إلى الطلاق، لم يعد يرتكزعملياً سوى على «حزب الله» الذي لم يتبنَ أساساً بشكل معلن ترشيحه، وكيف بالحري بعد الموجة الشعبية المعترضة عليه ومن ضمنها داخل البيئة الشيعية؟

وعلى رغم انّ جزءاً من العلاقات السياسية يستند إلى المصالح المتبادلة، ولكن هذه المصالح تبقى ما دون رئاسة الجمهورية التي يصعب على اي فريق فيها تبنّي باسيل، فضلاً عن أنّ علاقاته مع معظم القوى السياسية تتراوح بين القطيعة والسيئة في ظل غياب عامل الثقة.

ـ ثالثاً، على المستوى الشعبي، يحتاج باسيل إلى فترة طويلة من أجل ان يتمكن من تبريد الاحتقان الشعبي العابر للطوائف ضده، وان تكون لديه حيثية مسيحية لا ينفي أنّ سلوكه ومقارباته شكلّتا عامل استفزاز للرأي العام قبل الثورة، وكيف بالحري بعد 17 تشرين ودخول الناس على خط المشهد السياسي كلاعب أساسي في التوازنات القائمة، حيث لم يعد يقتصر دورها على مجرد التعبير والاعتراض، إنما انتقلت إلى الشراكة مع القوى السياسية. وفي ظل هذه الحالة بات يصعب على باسيل أن يتبوأ موقعاً وزارياً لا رئاسياً، الذي أصبح بعيد المنال.

ـ رابعاً، على المستوى الخارجي، أن تكون الدائرة الأولى المقرّرة في الانتخابات الرئاسية هي محلية، لا ينفي انّ لعواصم القرار الغربية والعربية والإقليمية تأثيرها. ومعلوم على هذا المستوى أنّ باسيل لم يتمكن في كل زياراته لواشنطن من تأمين اللقاءات التي يطمح في عقدها، فضلاً عن انّ علاقاته مع الدول الخليجية لا تتجاوز الإطار البروتوكولي، وبالتالي طالما انّه لا يحظى بقاعدة دعم محلية قادرة على تزكية ترشيحه في الخارج، الأمر غير القائم في ظل معارضة «القوات» و«المستقبل» لترشيحه، فإنّ حظوظه على هذا الصعيد تبقى معدومة.

 

وبمعزل عن تأثير زلزال 17 تشرين على وضع باسيل الشعبي والنيابي والحزبي، فإنّ فرصته الرئاسية التي كانت متاحة كخلف محتمل لعون لم تعد ممكنة، فيما نقطة قوته كانت أنّ عون شخصياً يسهر على هذا الانتقال. ومع انتفاء هذا الهدف يُفترض ان تنتقل أولوية العهد من رئاسية إلى الحد من الخسائر، الأمر الذي لا يمكن توفيره سوى من خلال نقل لبنان إلى شاطئ الأمان المالي والاقتصادي، وما لم يتأمّن هذا الإنتقال فإنّ وضع العهد بالذات في السنة الحالية لن يكون في أفضل حالاته.

 

وفي موازاة خسارة باسيل للفرصة الرئاسية، فإنّ التحدّيات أمامه ما زالت كثيرة خصوصاً انّ العاصفة التي هبّت في 17 تشرين لم تنتهِ بعد، وبالتالي يصعب تقدير ما إذا كانت خسائره ستقف عند هذا الحد، أم انّها ستتمدّد وزارياً ونيابياً وشعبياً. وبالتالي، المطروح بالنسبة إلى باسيل ليس استرداد ما خسره في العام الفائت، لأنّ ما خسره قد خسره، إنما المطروح هل في إمكانه ان يضع حداً لخسائره وتراجع دوره ونفوذه وتأثيره وشعبيته؟

 

ويبقى انّ باسيل يستحق بامتياز، إلى جانب الثورة، لقب شخصية العام 2019 بخسارته الكبرى الرئاسية وخسائره الأخرى السياسية وتحوله الهدف الأول للناس بنحو غير مسبوق في لبنان.

 

الانتكاسة الكبرى التي أصابت العهد كانت بسبب تبديته أولوية خلافة باسيل لعون على أولوية إنجاحه.