لو عادت الأمور إلى فريق السلطة، لما استقالت الحكومة. ولكن، تحت الضغط الداخلي والخارجي وهواجس الانهيار، تمَّت الاستقالة. فبات الوضع المثالي هو إبقاؤها حتى إشعار آخر في وضعية تصريف الأعمال. وعندما اضطر هذا الفريق إلى البحث عن حكومةٍ جديدة، تحت الضغط أيضاً، تمسَّك بالحريري وطلب منه استنساخ حكومته السابقة.
 

وعندما رفض الحريري ذلك، تحت الضغط أيضاً، اضطر فريق السلطة إلى تكليف شخصيات أخرى… سقطت كلها بسبب الرفض السنّي وضغط الشارع وشروط المجتمع الدولي، إلى أن رسى التكليف على الدكتور حسّان دياب.

 

أي، عملياً، تجاوز الجميع عقدة التكليف «افتراضياً»، ليكون الرهان على التأليف. وفي عبارة أخرى، إذا صدقت الوعود بتأليف حكومة اختصاصيين مستقلين، لا نفوذ للقوى السياسية عليها، فلا مشكلة في أن تُعطى فرصة لكي تؤسّس لمرحلة الإنقاذ اقتصادياً ومالياً وسياسياً، ببرنامج متكامل يتضمن انتخابات نيابية مبكرة. وهذه الانتخابات تُفرِز حكومة جديدة.

 

إذاً، هذا هو المحك اليوم. وإذا كان فريق السلطة يعمل لحكومة من لونٍ واحد، مموَّهةٍ بتشكيلة من التكنوقراط، لكي تصبح مقبولة في الداخل والخارج، فإنّ الخدعة لن تنطلي على أحد، لأنّ الجميع يراقب ويدقّق في الشاردة والواردة. وستكون انعكاسات حكومة من هذا النوع على البلد أسوأ من انعكاسات استمرار حكومة التصريف.

 

إذاً، بعيداً من التسريبات المتضاربة، علامَ تدور المفاوضات اليوم؟ وفي عبارة أكثر دقَّة: أي فلسفةٍ تقود عملية التأليف: حكومة مستقلين وذوي كفّ نظيف تكشف جرائم الفساد، أم تركيبةٌ تحرِّكها القوى النافذة لتواصل إدارة الصفقات وتغطية الفضائح، سواء من خلال محازبين «فاقعين»، أو بتكنوقراط يُدارون بـ«الريموت كونترول»؟

 

هذا هو في العمق مأزق حسّان دياب، والبقية ملهاة في لعبة حجم الحكومة وأسماء الوزراء والحقائب، لا تُقدّم ولا تؤخّر. ويعلم فريق السلطة أنّ أي تشكيلة حكومية يتمتع أعضاؤها بالاستقلالية والشفافية لن يواجهها أحد بالاعتراض، لا في الداخل ولا في الخارج.

 

والدليل إلى ذلك أنّ دار الفتوى، على رغم «النكسة الميثاقية» في عملية التكليف، تلتزم الصمت وتَمنح الفرصة لتأليف الحكومة الموعودة. وقد أرجأت اجتماعها الدوري الذي كان يُفترض انعقاده غداً، لئلا تُصدر بياناً سلبياً من عملية التكليف فيتكرَّر مع دياب ما جرى مع الذين سبقوه، عندما تبلَّغوا بنحو حاسم أنّ مرشح دار الفتوى هو الرئيس سعد الحريري. لكن مهلة دار الفتوى مضبوطة طبعاً، ومشروطة بتركيبة الحكومة المنتظرة.

 

والدليل أيضاً إلى وجود فرصة، هو أنّ الانتفاضة ما زالت في حال هدنة على رغم الأصوات التي تطالب بإنهائها واستعادة الحراك مع انتهاء عطلة الأعياد. وكذلك، إنّ القوى الدولية والعربية، التي يعوِّل عليها لبنان في شكل حيوي لإسعافه من الانهيار الكامل، تجنّبت أي موقف سلبي مُسبق من عملية التكليف، وهي تنتظر أن يثبت فريق السلطة جديَّة الوعود.

 

وحتى رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط ما كان سيجد مبرراً للمطالبة بحسن تمثيل الدروز من زاويتين طائفية وسياسية، لو لم تكن مفاوضات التأليف تدور حول التقاسم الطائفي والسياسي للحكومة العتيدة، خصوصاً على المستويين الشيعي والمسيحي.

 

وهكذا، من زاوية افتراضية، تبدو عملية تأليف الحكومة سهلة وقريبة جداً لأنّ اللاعبين فيها ينتمون إلى فريق واحد. وكان يمكن أن تولد الحكومة خلال أيام. لكن ذلك مرهون بالتوافق داخل الفريق المعني، أي:

 

إذا اقتنع دياب بحكومةٍ تكنوسياسية وفق ما يطالب الثنائي الشيعي و«التيار الوطني الحر»، رغبة منهما في الحفاظ على النفوذ والمصالح، أو إذا اقتنعت هذه القوى السياسية بطرح دياب الراغب في التزام الوعود التي قطعها على نفسه أمام الداخل والخارج.

 

وكل الوقت المستهلك حتى الآن في عملية التأليف هو لإيجاد تسوية بين دياب والقوى التي أوكلت إليه هذه المهمة. لكن هذا الأمر ليس سهلاً. ففي الواقع، هناك نزاع حياة أو موت بالمعنى السياسي بين الطرفين:

-1 إذا لم يكن لقوى السلطة موطئ قدم في الحكومة العتيدة، وتشكّلت هذه الحكومة من مستقلّين يتمتعون بالشفافية والرغبة في الإصلاح، فستفقد هذه القوى نفوذها السياسي المعروف، وتنكشف، وتخسر القدرة على التهرُّب من المسؤولية. كذلك تخسر القدرة ولو جزئياً على التحكّم بالانتخابات النيابية المقبلة. وهذا أمر يعيد خلط الأوراق وموازين القوى جذرياً في المرحلة المقبلة.

-2 إذا شاركت قوى السلطة في الحكومة ولم يستطع دياب أن يفي بتعهداته للداخل والخارج بتشكيل حكومة من تكنوقراط ومستقلين ولهم سجل نظيف، فإنّ الرجل سيسقط سريعاً تحت الضغوط المختلفة، سنّياً وشعبياً ودولياً وعربياً، لأنّ حكومته ستكون حكومة التحدّي والإمعان في تجاهل المشكلة.

 

المعلومات تتحدث عن مساعٍ للتسوية لا يموت فيها الديب ولا يفنى الغنم: حكومة لا وجوه سياسية نافرة فيها، بل تكنوقراط. ولكن، بينهم الذين «تمون» عليهم قوى السلطة، وتضع لهم «ضوابط العمل» ومساحات التحرّك المسموح بها.

 

ويتمّ تسريب اللوائح والأسماء والمواصفات بشكل مدروس لجسّ النبض ومعرفة ردود الفعل عليها في الداخل والخارج. فإذا تبيَّن أنّ صيغة معينة تلقى القبول يتمّ التجرؤ على إعلانها. وطبعاً، سيقتنع بها الرئيس المكلّف.

 

هل هي لعبة خطرة؟

بالتأكيد. لا أحد يمرّ عليه هذا «التذاكي اللبناني» الفريد من نوعه… إلّا إذا كان هناك أمرٌ آخر يجري تدبيره تحت الطاولة: دفع حكومة دياب لتتبرع بالتقاط كرة النار فتحترق بها، على أساس أنّها محروقة سياسياً، سواء بثقة المجلس أو من دون هذه الثقة.

 

في هذه الحال، يجري إلباسها الانهيار الكبير الذي «لا ناقةَ لها فيه ولا جَمَل». وهي التي تواجه غضبة الناس التي ستبلغ الذروة. وفي عبارة أخرى، سيجري تحميل حكومة دياب المسؤولية عن دم القتيل. وسيتاح للسياسيين أن يتفرّجوا ويقلّصوا خسائرهم، على أمل العودة على أحصنةٍ بيضاء… إذا بقي شيء يستحق العودة...

 

الأرجح أنّها مسألة أيام، ويبدأ طرف الخيط بالظهور. ولكن، هل يتذكر الجميع أنّ اللعب بالنار، في مكان سريع الإشتعال، غير مضمون العواقب؟

هل يتذكر الجميع أنّ اللعب بالنار، في مكان سريع الإشتعال، غير مضمون العواقب؟