هذا اللّبناني ليس كائناً خارقاً، إنّه وليد اللحم والدّم البشريّين، المُغذّى بلبن الكفاح والجهد والسُّمو، كلّ ما يطلبه هذا اللبناني اليوم وطناً حُرّاً، ونظاماً عادلاً، وسلطة شفافة ونزيهة برقابة شعبية جاهزة، فهل هذا يدخل في نطاق المُحال والأعاجيب؟
 

 

وقف الشعب اللبناني في السابع عشر من تشرين الأول عام ٢٠١٩ وقفة رجُلٍ واحد في وجه السلطة السياسية الفاسدة، السلطة التي أودت بالبلد إلى الانهيار المالي والاقتصادي والاجتماعي والسياسي، وقفَ الشعب اللبناني الصابر مُطلقاً أصوات التّمرُّد والحرّية، هاتفاً بأعلى صوته: ولّى زمن السّعالي، والخرافات والأصنام والطوائف والمذاهب و"الدوغمات"، والتوافقات والمحاصصات، واستباحة المال العام، ولّى زمن التّفاهة والثرثرة بحقوق المسيحيين هنا، وحقوق المسلمين هناك، وقف الشعب مُطالباً ب"النور"، لا النور الاصطناعي، وقف الشعب اللبناني شامخاً رغم كل ألاعيب السلطة بحشد الفقراء"المُضلّلين" بوجه الفقراء والمساكين و"البائسين"، وقف شامخاً بوجه سلطة المصارف التي حجبت أموال الناس، فكان الرّد بأنّ النقود لا قيمة لها بحدّ ذاتها، ما يريدهُ اللبنانيون اليوم القليل من الغذاء، واليسير من الكساء والمأوى، وما لا بدّ منه من الدواء، المواد الأساسية والحيوية لا النقود، لقد انهار البناء الفاسد أمام عيون الجميع، وحدهم أهل السلطة الفاسدة يرفضون الاعتراف والتّصديق، لا يزالون يأملون في مُعاودة أعمال النهب وتكديس الثروات، لم يدركوا على ما يبدو فداحة الدمار والخراب الشامل، ما زالوا يستعملون لغة العصر الحجري القديم، ويعجزون عن الإمساك بمآسي الحاضر، فكيف يستطيعون التفكير بصيغ المستقبل؟

 

لا يعترفون بما أصاب نظامهم الفاسد ، وأنّه ولّى إلى غير رجعة، لم يبقَ سوى المستقبل الذي يفغر فاهُ بعزيمة مئات الآلاف من الثوار المنتفضين في الشوارع والساحات منذ حوالي الثلاثة أشهر، يأملون بأن يحصدوا ما سبق لهم وزرعوهُ في العام السابق، نورٌ ضئيل لا بدّ أن تتوسّع دائرته، ليغدو أكثر روعةً وحيوية، وهذا ليس من قبيل الشعر ولا من قبيل الأحلام الوردية، بل هو جهدٌ ممزوجٌ بالصبر والجَلَد، في عالمٍ ينحو نحو الحرية والعدالة والخلاص، خلاصٌ لن يبقى على الدوام سبباً للشّكوى، بل أرضاً للتّمرُّد، وحقّ الإنسحاب حين الضرورة، شعب لبنان "العظيم" لن يعود أيّها الطغاة الظلمة إلى بعبع الاسترقاق والعبودية،  سواء كان طائفةً أو مذهباً أو كاهناً أو شيخاً أو زعيماً أو دُويلة زائفة، لا بدّ أن يمضي اللبنانيون في كسر الأغلال والقيود "السّرية" التي تنهش أعضائهم الحيوية، وتحرمهم الرّاحة والأمان والرفاه، لا بدّ للُّبناني أن يستعيد نُبل السلالة القديمة، وحلم التفوّق الدائم، ما دام يستر جانبهُ الناقص، هذا اللّبناني ليس كائناً خارقاً، إنّه وليد اللحم والدّم البشريّين، المُغذّى بلبن الكفاح والجهد والسُّمو، كلّ ما يطلبه هذا اللبناني اليوم وطناً حُرّاً، ونظاماً عادلاً، وسلطة شفافة ونزيهة برقابة شعبية جاهزة، فهل هذا يدخل في نطاق المُحال والأعاجيب؟

 

نرجو أن تكون هذه المطالب "الحقوق" ما زالت في حيّز الإمكان والواجب.