تلك هي الوطنية التي إذا ما وضعتها في الميزان، ستجد أنها عار. الوجه الآخر للعار، هو أن يبلغ البؤس بإيران أن تستخدم الصواريخ للحوار. وثمة ما يبرر الخشية من أن تحقق إيران، بهذا النمط من السلوك، ما تريد.
 

تعرف إيران ووكلاؤها والعالم بأسره أن ميليشياتها في العراق كسبت السلطة بالتواطؤ مع الولايات المتحدة، حيث تكاتف رئيسان جمهوري (جورج بوش الابن) وديمقراطي (باراك أوباما) على منحها النفوذ، وساعداها على بناء نظامها الطائفي، وأرسيا له الأسس، ووفرا له الدعم الأمني والسياسي، بل وشاركا في جرائم القتل والتعذيب والتصفيات الدموية وهدم المدن، من أجل أن يستقر لها القرار. وهذا ما يعني أن جماعات إيران لا يمكنها أن تخلع على نفسها، وهي ترتدي قناع محاربة الولايات المتحدة اليوم، صفة الوطنية.

عملاء إيران لا يعرفون معنى الوطنية من الأساس. لأنهم، بالتعريف وبالاعتراف، مطايا مصالح أخرى.

ولكن، ما الذي جعلهم يقلبون ظهر المجن على وليّ أمرهم الأول، ويرفعون العين على الحاجب؟

الجواب بسيط: إيران. وإنما لسببين. الأول، اقتصاد إيران الذي يواجه الانهيار التام. والثاني، مشروعها الطائفي الذي يتصدع في المنطقة.

وكل ما تريده إيران من التصعيد مع الولايات المتحدة هو أن تدفع به إلى مصاف أزمة. وككل أزمة، توشك على الانفجار، فإنها لا بد أن تنتهي بحوار.

إيران تريد الحوار. وتريد من هذا الحوار أن يتم التوصل إلى صفقة، تخفف عنها قيود العقوبات، وتسمح لمشروعها الطائفي أن ينتصر على الاحتجاجات المناهضة له في العراق ولبنان.

هذه هي كل غاية الهجمات الصاروخية التي نفذتها ميليشيات الولي الفقيه. هذه الميليشيات تعرف سادتها. وهي لا تقصد، في الحقيقة، أن ترفع العين على الحاجب، كما أنها لا تنكر فضل الولايات المتحدة عليها، وهي التي أكرمتها باتفاقات أمنية واقتصادية تضمن مصالحها، ولو أمكن أن تجعل البيت الأبيض محجا للتسبيح بحمده والصلاة بين أقدام قاطنيه لفعلت. ولكن ما باليد حيلة. فالسيد الآخر مخنوق. وهو يبحث عن متنفس. ولا يطلب إلا النجاة.

في الثامن من ديسمبر 2019، قدم الرئيس الإيراني حسن روحاني ميزانية لعام 2020 قال إنها “الأقل اعتمادا على النفط”، وأطلق عليها لقب “موازنة الصمود”.

الموازنة الجديدة جاءت بقيمة اسمية تبلغ 134 مليار دولار، وفعلية تبلغ أقل من 37 مليار دولار، مقابل 43 مليارا للعام الذي سبقه. وبحسب “المعهد الدولي للدراسات الإيرانية”، فإن “حجم الموازنة الحكومية المقترحة يبلغ 484 تريليون تومان (أو 115 مليار تومان بسعر الصرف الرسمي 4200)”، ولكن سعر الدولار، يزيد في الواقع على 13 ألف تومان، وهو ما يعني أن القيمة الحقيقية لأرقام الميزانية تبلغ ثلث المعلن فحسب. فإذا أخذت بعين الاعتبار أن نسبة تضخم تبلغ 41 بالمئة، فإن إيران تقف في الهاوية، وليس حتى على شفيرها.

صحيح أن عملاء إيران في العراق يقدمون لها نحو 20 مليار دولار إضافية من المنهوبات، إلا أن هذه المليارات، ككل أعمال الفساد الأخرى، تذهب في دروب الفساد أيضا. المال الحرام، يأتي ويذهب بالحرام. تلك هي طبيعة الأمور.

صندوق النقد الدولي، على أي حال، يتوقع بأن ينكمش الاقتصاد الإيراني بنسبة 9.5 بالمئة هذا العام.

وزيادة في الكارثة، فإن ميزانية “الصمود” تشمل بيع أصول استثمارية بـ98.80 تريليون ريال (أو 7.6 مليار دولار)، وأصول مالية بـ1240 تريليون ريال (أو 9.53 مليار دولار)، وتتوقع عوائد ضريبية وجمركية بـ1950 تريليون ريال (أو 15 مليار دولار). وما هذه إلا ميزانية إفلاس.

الميزانية لا تعني حجم الاقتصاد الكلي، ولكنها تعني في النهاية حجم الإنفاق الحكومي، بكل ما فيه من عائدات ونفقات وقروض. وإذا ما قمت بتقسيم هذه الميزانية على عدد السكان، فسوف ترى كم سيكون نصيب الفرد من تلك الميزانية. الإيرانيون 81 مليون إنسان. ونصيب الفرد السنوي من هذه الميزانية يبلغ 456 دولارا فحسب. أو 1.2 دولار في اليوم.

هذا هو الأثر الذي بلغته العقوبات على اقتصاد إيران. ولهذا السبب فإن “ميزانية الصمود”، هي في الواقع “ميزانية صواريخ” يطلقها الحشد الشعبي على القواعد الأميركية في العراق، إنما على سبيل طرق الباب. وكأن لسان حال قادة الميليشيات في العراق يهتف بالقول: يا ناس، يا عالم، سيدنا وولي أمرنا يختنق.

الحوار، ولا شيء إلا الحوار، هو الهدف الوحيد لتلك الصواريخ. وككل حوار، فإنه لا بد وأن ينتهي بصفقة. ذلك هو المأمول، على أي حال.

صحيح أن وكلاء الولي الفقيه يتلقون في المقابل ضربات تأديبية، إلا أن لسان حالهم يقول “أروح فدوة لنعال قاسم سليماني”.

تلك هي “الوطنية” التي إذا ما وضعتها في الميزان، ستجد أنها عار. الوجه الآخر للعار، هو أن يبلغ البؤس بإيران أن تستخدم الصواريخ للحوار. وثمة ما يبرر الخشية من أن تحقق إيران، بهذا النمط من السلوك، ما تريد.