يُنهي لبنان اليوم عاماً كان مليئاً بالأحداث المفصلية، ليدخل غداً في آخر، لا أفقَ واضحاً فيه، إن سياسياً أو اقتصادياً أو اجتماعياً، خصوصا أنّ البلاد بكاملها تسير بحركة «النقطة الصفر» إلى مصير من اثنين: إما الانقاذ الصعب، أو الانهيار المحتوم.
 

المشكلة الموجعة أنّ أحداً في لبنان لا يبدو انّه استخلص الدروس منذ انفجار الغضب الشعبي ليل 17 تشرين الأول. فلا العهد، برئيسه ومن معه، ولا كل من هو متربّع على عرشه، ولا الخارجون من جنة الحكومة ولا الآتون اليها، ولا الفريق الذي يبدو قد قرّر التموضع في المعارضة، ولا حتى أهل «الحراك» بطالحيهم وصالحيهم، ومن ركب حاجتهم، مدركون لخطورة المرحلة، التي لو مضت في الاتجاه الذي يحذّر منه الخبراء الاقتصاديون، لذهبت بالبلاد إلى الترحّم عليها.

مؤشراً سيئاً كان، تأجيل تشكيل الحكومة إلى ما بعد رأس السنة، بعدما انتظر اللبنانيون «العيدية». هو تأخير، على رغم من كل مبرراته، يتجاهل حقيقة أنّ كل يوم يمرّ على لبنان في ظلّ الأزمة السياسية ربما بات يعادل سنة من الخسارة الاقتصادية، في بلد يقترب من السقوط في جحيم الافلاس.

 

ومؤشر أسوأ، هو أنّ الفريق الذي اختار «المعارضة» على «المشاركة»، يهدّد اليوم، في السرّ والعلن، بلعبة الشارع إن بافتعال العنف أو بإقفال الطرق، أو بالأصح زرعها بألغام متفجّرة، قد تبدّد أيّ فرصة، ولو ضئيلة، للإنقاذ.

 

ومؤشر يفوق ما سبق سوءاً هو أنّ الحراك الشعبي قد بات مفتوناً بنهج غريب، إن في مطالبه التي تستلهم شعارات عبثية على شاكلة «كن واقعياً واطلب المستحيل»، أو في الإصرار على عدم تشكيل قيادته الموحّدة، التي من شأنها أن تشكّل أداة للضغط البنّاء على السلطة السياسية، أياً كانت تشكيلتها الحكومية.

 

تكمن المفارقة هنا، في أنّ المؤشرات السيئة الآنفة الذكر، يتجاهل أصحابها كثيراً من المتغيّرات التي باتت سيفاً مصلتاً على رقبة الجميع، وخصوصا في الجانب الاقتصادي منها. فإذا كان ثمة إجماع، قبل ما يزيد على الشهرين، على أنّ «ضريبة الواتساب» جاءت قراراً غبياً في وقت بالغ الخطورة، فقد صار من الممكن إدراج كل خطوة يُقدم عليها أيّ من أفرقاء الأزمة القائمة بأجنحتهم الثلاثة (العهد، المعارضة، الحراك) ضمن مصطلح جديد، تصحّ تسميته «الشقيرية»، إذا ما اسقطنا عشوائية قرار وزير الاتصالات الذي فجّر الغضب الشعبي، على عشوائية المواقف في «السيرك» الوطني المتجدّد.

 

الجميع يتعامل بمنطق «القطعان في وادٍ والرعيان في وادٍ آخر»، ويتجاهل أنّ الانفجار الاجتماعي قد وقع فعلاً، على وقع سياسات اجتماعية، وضعت البلاد على سكة الانهيار، لتصبح المؤشرات الاقتصادية شبحاً أسود يحوم فوق رؤوس اللبنانيين في الارتفاع الكبير في أسعار السلع، ولاسيما المستوردة منها، والتي تشكّل الجزء الأكبر من سلّة الاستهلاك، وفي التحذيرات المتتالية من نفاد احتياطيات السلع الرئيسية أو عدم القدرة على استيرادها، ناهيك الانكشاف الذي أفرزته الانتفاضة الشعبية للقطاع المصرفي، الذي بات المودعون فيه يتسوّلون أموالهم المدّخرة، والموظفون يركضون خلف رواتبهم فلا يلحقونها.

 

كل تفاصيل الحياة السياسية المأزومة في لبنان تشي بأنّ لا نية لتغيير النهج العام، وإن اختلفت خريطة التحالفات قليلاً، بسقوط التسوية الرئاسية، التي نعاها كلّ من سعد الحريري وجبران باسيل، والتي رسمت المشهد اللبناني منذ الانتخابات النيابية الأخيرة، ومن سماتها تأخير كلّ شيء، من تشكيل الحكومات، إلى تأجيل الاستحقاقات المصيرية، وتركها للعبة القدر.

 

ولكنّ لعبة القدر عشية العام الجديد قد تحمل ما هو أخطر من مجرّد انهيار اقتصادي يلوح في الأفق.

فالمتاهة اللبنانية بات معها المصير مفتوحاً على خيارات أكثر سواداً، قد تنتهي معها الصيغة التي حكمت لبنان منذ اتفاق الطائف، لتشكّل مرحلة انتقالية، غير واضحة الملامح من الجمهورية الثانية إلى الجمهورية (وربما الجمهوريات) الثالثة.

 

لا يختلف اثنان على أنّ لبنان دخل في متاهة أزمات مفتوحة، إن في الاقتصاد أو في السياسة. في الاقتصاد، تطلّ افعى صندوق النقد والبنك الدولي برأسها، حاملة كل ما في جعبها من وصفات يتمّ الترويج لها، باعتبارها ضريبة موجبة لمنع الانهيار الذي يتهدّد وحدة البلاد. لكنّ الوصفات ذاتها، في بلد مثل لبنان، وفي ظلّ الحقائق الاقتصادية - الاجتماعية والسياسية التي انكشفت خلال الشهرين الماضيين، تحمل في طيّاتها بذور الانهيار.

 

فإذا كانت السياسات الاقتصادية السابقة قد ولّدت انفجاراً اجتماعياً اشعله «قرار الواتساب»، فأي انفجار سيكون فيما لو اتُخذت إجراءات من قبيل تحرير سعر الصرف، بما يجعل القوة الشرائية للمواطن اللبناني تتهاوى، ويتلاشى معها النذر القليل الذي تحقق من مكتسبات، كسلسلة الرتب والرواتب على سبيل المثال، مع انّها سلسلة مُتهمة بخنق الاقتصاد.

 

حتى كبح المسار الانحداري نحو الانهيار من خلال حزمة من القروض والمساعدات والهبات، وفق فلسفة مؤتمرات باريس، وآخر نسخة منها مؤتمر «سيدر»، بات خياراً غير واقعي، بعدما أثبتت السنتان الماضيتان أنّ الأمر مرهون بموافقة الأميركيين، التي لن يكون من الممكن انتزاعها إلّا بفاتورة سياسية كبرى، باتت عناوينها واضحة: سلاح المقاومة وترسيم الحدود مع إسرائيل.

 

هنا يبقى السؤال: ما هو النظام الجديد الذي سيُبنى على انقاض الانفجار الاجتماعي المُحتمل؟

 

لا يمكن فصل الاجابة عن الوضع الاقليمي بأفقه المفتوح على شتى الاحتمالات، والذي يبقى لبنان في عين عواصفه، سواء تعلّق الامر بالتطورات السورية وتأثيرها على موقع كل طرف سياسي داخلي، أو بتطورات الملف الإيراني- الأميركي وانعكاساته على النزاع المحلي.

 

أولى بوادر هذه الانعكاسات بدأت بالفعل، مع انتقال الثلاثي الحريري ـ جعجع ـ جنبلاط من الموالاة إلى المعارضة، بكل ما يعنيه ذلك من حساسيات ذات بعد طائفي، تدرك نقطة ضعف الفريق المقابل، الذي يمكن اختزاله بـ»الميثاقية» التي يُرجّح أن تكون حكومة إدارة الأزمة المقبلة مفتقدة لها، بكل ما يستتبع ذلك من توتير للأجواء الامنية على النحو الذي شهدته البلاد خلال الأيام الماضية، وما قد تشهده في زمن التشكيل الحكومي أو ما بعده.