«لماذا لم يزر الرئيس سعد الحريري معراب على غرار زيارته الرئيسين ميشال عون ونبيه بري؟ لماذا أوفد مستشاره غطاس خوري الى حليفه سمير جعجع ولم يتصل به مباشرة؟». هذان التساؤلان طرحتهما أوساط قريبة من «القوات اللبنانية»، مرجحة أن الحريري لو قصد شخصياً معراب عِوض إرسال موفده غطاس خوري لربما تغيّر مناخ القاعدة القواتية الذي كان ضد إعادة تكليفه بسبب التراكمات التي تحدّث هو عنها منذ ما قبل قانون الإنتخاب، فضلاً عن أنّ الحريري في الاشهر الاخيرة، وحتى منذ استقالته، كان رافضاً التنسيق مع «القوات» ويحمّلها مسؤولية رفضها موازنة 2020 وهو اليوم «متفاجىء» بموقفها! فهل يحق له لومها؟
 

تعود الأوساط القريبة من «القوات» بالذاكرة الى عام 1998.. وتحديداً الى ما تسميه «لبننة» الطائفة السنية، فتؤكد أنّ هذا التحوّل حصل عندما شعرت البيئة السنية، ممثّلة بالشهيد رفيق الحريري، بأنّ النظام السوري بدأ يضيّق ويشدّ الخناق على رقبتها منذ تسلّم بشار الاسد زمام الملف اللبناني عام 1998 وصولاً الى كل المراحل التي تلت تسلّمه مقاليد السلطة في سوريا، دفعت بهذه الطائفة الى التقاطع مع البيئة المسيحية ومع الحزب التقدمي الاشتراكي من أجل مواجهة النظام السوري، وبدأ الأمر يترجم من خلال لقاءات البريستول وصولاً الى اغتيال الشهيد رفيق الحريري في 14 شباط ومن ثم «انتفاضة الاستقلال».

 

وفي هذا السياق تعتبر هذه الأوساط «انّ الكلام الذي يُقال: لولا تيار «المستقبل» لَما خرج جعجع من السجن، هو كلام معيب لأنّ رئيس حزب «القوات» دخل الى السجن بأمر من النظام السوري وخرج من المعتقل بعد خروج الجيش السوري من لبنان. وبالتالي، من أخرج جعجع من السجن هو خروج النظام السوري فقط لا غير».

 

وتؤكد الأوساط نفسها «أنّ الخطأ الأكبر والأساس الذي ارتكب بعد مرحلة 2005 انّ المواطن اللبناني لم يشعر أنّ السلطة، التي انتقلت من مرحلة ما قبل الانسحاب السوري من لبنان الى مرحلة ما بعد هذا الانسحاب، تبدّلت. وبالتالي، بقيت الإدارة نفسها. والخطيئة الكبرى التي ارتكبت كانت في التحالف الرباعي الذي نَفّر المسيحيين، وأدى عملياً الى منح الاقتراع المسيحي على طبق من ذهب للعماد ميشال عون».

 

وتضيف: «خرج الجيش السوري ولم يتبدّل شيء في معادلة توازنات السلطة والحكم، كما «القوات» لم تبدّل في مواقفها وفي خياراتها، وكانت مسرورة جداً بالتحوّل التاريخي نحو لبننة البيئة السنية التي بَدّت الاولوية اللبنانية على الاولوية العروبية، ما دفع «القوات» الى عدم مطالبتها بنفوذ على مستوى السلطة».

 

ويرى المعنيون «أنّ المشكلة هي أنّ «القوات» لم تحصل مع تيار «المستقبل» الّا على وزارات ثانوية، بينما العماد عون نجح في إقناع بيئته بأنّ «حزب الله» أعطاه سلطة ونفوذاً للتحالف معه، بينما تيار «المستقبل» اراد ان يأخذ كل الحصص وكل النفوذ على حساب البيئة المسيحية. وبالتالي، ساد الأنطباع بأنّ «القوات اللبنانية» لا تستطيع ان تنتزع ما يستطيع ان ينتزعه عون من خلال التحالف مع حزب الله».

 

وترى الاوسط نفسها «انّ 14 آذار لم تصل الى ما وصلت اليه الّا نتيجة مساومات الحريري وتنازلاته في كل المراحل التي مررنا بها، وبالتالي ترى أنّ الاشتباك الاول والاساس مع تيار «المستقبل» كان له علاقة بالجانب التمثيلي الوزاري والنيابي، والحريري كان من أكثر المتشددين رفضاً لإقرار قانون انتخابي جديد يعيد تصحيح الخلل الذي أسّس له النظام السوري، في حين ترى انّ الحريري استكمل ما أسّس له النظام السوري من إضعاف المسيحيين، وهو إضعاف مكوّن سيادي اساسي داخل التركيبة اللبنانية».

 

وتضيف: «لولا تقاطع الدكتور جعجع مع العماد عون بعد وصوله الى رئاسة الجمهورية لَما تمكنّا من تغيير قانون الانتخاب، وهذه المسألة ليست تفصيلية إنما أساسية».

 

وتكشف الأوساط نفسها أنه «عشية انتخابات 2009 أمضى الدكتور جعجع 6 ساعات في التفاوض مع الحريري من اجل ترشيح ريشارد قيومجيان عن مقعد الاقليات في الاشرفية، لكنّ الحريري رفض وأصرّ على تمثيل جان اوغاسبيان الذي نال في انتخابات 2018 نحو 150 صوتاً، وكل هذا الامر أدّى الى عدم التعامل معه كشريك حقيقي، بينما حزب الله تعامل مع ميشال عون كشريك حقيقي».

 

وتضيف: «الخطأ الثاني، الى جانب قانون الانتخابات، كان في الانتخابات الرئاسية في وقت عَلم الدكتور جعجع جيداً أنّ موازين القوى الاقليمية والداخلية لا تسمح بوصوله الى انتخابات رئاسية، وبالتالي ترشّحه كان من أجل الإمساك بهذه الورقة منعاً لوصول مرشّح من الطرف الآخر ولأنه استحقاق مسيحي يبدأ بالدائرة المسيحية على غرار الرئاستين الثانية والثالثة.

 

وبالتالي، بدلاً من تمسّك الحريري بترشيح سمير جعجع بدأ يتنقّل بمرشح 8 آذار انطلاقاً من نظرية انّ الدكتور جعجع متعذّر عليه الوصول، وبالتالي لا بد من إنهاء الفراغ من خلال إمّا ترشيح فرنجية وإمّا ترشيح عون، فتخلّى عن جعجع وبدأ ينفتح على عون، في حين كانت الحقيقة انه كان يريد العودة الى السلطة من باب انتخاب رئيس للجمهورية وأن يكون هو عرّابها، فأقفل جعجع الطريق امامه من خلال الراحل وزير الخارجية السعودي سعود فيصل.

 

وعندما اقفل الباب امام الحريري عاد وجرّب مجدداً من خلال ترشيح سليمان فرنجية، وأمام هذا الترشيح، ولأنه جاء من خارج الاتفاق المسيحي ـ المسيحي حيث هو نتيجة التوافق الثلاثي الذي كان ممسكاً باللعبة السياسية إبّان مرحلة النظام السوري، اي سعد الحريري + وليد جنبلاط + نبيه بري حيث تم ترشيح النائب سليمان فرنجية، وأمام هذا التوافق العريض وامام التقاطع الفرنسي ـ السعودي ـ الاميركي، رأى الدكتور جعجع انه لا يمكن إقفال هذا الباب لأنّ هذا الاستحقاق هو استحقاق ميثاقي، إلّا من خلال اتفاق مع العماد عون. وبالتالي، لو انّ الحريري لم يتخلّ عن ترشيح جعجع واستمر واضعاً يده بيده لَما وصلنا الى انتخاب عون، وبالتالي فإنّ من تَسَبّب بهذه التسوية هو الحريري الذي أوصلنا الى هنا نتيجة تَخلّيه عن جعجع، ونتيجة حرصه على مستوى السلطة».

 

ما بعد التسوية

 

وتقول الاوسط إيّاها: «حصلت التسوية، وبدلاً من أن يشكّل الحريري وجعجع ووليد جنبلاط نوعاً من التوازن الوطني السيادي والحقيقي في مرحلة التسوية، اندمج الحريري كليّاً مع عون وباسيل الى درجة انه في الانتخابات النيابية دعا علناً الى التصويت لصديقه جبران باسيل. وبالتالي، لولا هذه الانتخابات ولو أنّ الحريري اتخذ موقفاً داعماً للمشروع السيادي لكانت النتائج تبدّلت وحصدت «القوات» 4 أو 5 مقاعد اضافية، ولكان «المستقبل» حصل أيضاً على مثل هذا العدد من المقاعد، ونَقص تكتل باسيل الى ما دون 25 أو 24 نائباً، وبالتالي لكانت تبدلت الموازين».

 

وتضيف الأوساط انه «في موازاة كل ذلك لم يلتزم الحريري في غالبية المحطات أيّ شيء مع جعجع، وفي كل الحكومات كانت «القوات اللبنانية» تنال الحصة الدونية ولم تتمكّن من نيل حصة فعلية الّا من خلال ما أحرزته في الانتخابات النيابية من مقاعد مَكّنتها من الحصول على هذا الحجم.

 

وفي ضوء السرد ترى الأوساط القريبة من معراب «انّ الحريري لا يستطيع اليوم ان يُمنّن «القوات» بأيّ شيء، فضلاً عن انه لم يقف معها في المحطات الدقيقة... فعندما تقول انّ من حقها ان تكون لها حقيبة سيادية يجيبها الحريري بكل وضوح: «انا لم أعد استطيع الانتظار فيما قال حرفياً take it or leave it». كذلك على مستوى التعيينات في تسمية سعيد مالك، كان الدليل الأكبر عن حجم التخلّي الذي بادلَ الحريري «القوات» به، خصوصاً انّ «القوات» رشّحت مالك انطلاقاً من كفايته ولم يكن منتمياً اليها».

 

وتذكّر الأوساط نفسها بالمرحلة الممتدة من 2005 الى 2016 «حيث انّ الحريري أراد التفرّد والاحتفاظ بكل التعيينات، وبالتالي بَدت العلاقة من جهة واحدة، لأنّ «القوات» كانت حريصة على بقائها انطلاقاً من تبديتها الاعتبار الوطني أي «لبنان أولاً» على كل الاعتبارات الاخرى، ولأنها حزب مقاوم أولويته الوصول الى سيادة لبنان، ولكنها تعتبر في الوقت نفسه انّ تقوية الجسم السياسي المسيحي يشكّل عنصراً سيادياً استقلالياً أساسياً لأنه لو لم يكن كذلك لَما ذهب النظام السوري. وبالتالي، فإنّ تقوية هذا الجسم تفيد مشروع السيادة والاستقلال وكل مكوناتهما، ولا يمكن لـ«القوات» الكلام واتخاذ القرارات الّا انطلاقاً من ذلك وصولاً الى ترشيح الحريري أو إعادة تكليفه وعدم تسميتها له».

 

وتعتبر هذه الأوساط «أن الحريري لو أخذ بتصوّر «القوات» الاصلاحي لَما انهار البلد بهذا الشكل، و«القوات» لا تستطيع أن تنتظره في نهاية المطاف، وكان الأجدر به أن يتعاطى معها شريكاً حقيقياً، لأنّ لكل حزب خلفيّته وجمهوره ورؤيته، ولا يجوز التعاطي وكأنّ هناك فريقاً تابعاً ومتبوعاً، وتحديداً مع «القوات اللبنانية» التي لم تكن منذ نشأتها تابعة لأيّ طرف، وإنما تابعة لأفكارها والثوابت».