علاقة الفنان البريطاني فرنسيس بيكون بالكتب خاصة، فهو يصنفها إلى كتب نتذوقها فقط، وثانية نلتهمها، وثالثة ينبغي مضغها وهضمها.
 
يحتفي مركز بومبيدو بباريس بأحد الفنانين الكبار الذين كان لهم إسهام جليل في مسيرة القرن العشرين الفنية، هو البريطاني فرنسيس بيكون، الذي ولد في دبلن عام 1909 وتوفي في مدريد عام 1992، فقد استطاع أن يسجل حضوره منذ أعماله الأولى، ولكن صيته لم يذع عالميا إلّا بعد المعرض الذي أقيم له عام 1971 في القصر الكبير بباريس. هذا التاريخ الذي ثبّت اسمه في سجل الفنانين العالميين، مثّل أيضا تحوّلا في أسلوبه ونظرته إلى الفن، ترافق مع انتحار صديقه جورج داير.
 
ولئن كانت حياته المعذبة قد غذت فنه، فإن أطرافا أخرى غذّتها هي أيضا، من داخل الفن التشكيلي نفسه مثل غويا، وبيكاسو؛ ومن السينما مثل لويس بونويل، وسرغاي أيزنشتاين، ولكن الأدب هو الذي حفّزه أكثر من سواه، دون أن يتّخذه مطيّة لتصوير قراءاته، قال مرة “إن اللوحة لا علاقة لها بالرسم الإيضاحي. بل هي عكس ذلك تماما. كالزخرف الذي يخالف تماما الرسم الفني”.
 
والأعمال المعروضة في مركز بومبيدو هي التي أنجزها بيكون في العشرين سنة الأخيرة من حياته (1971 – 1992) وقد تمّ توزيعها على ست قاعات، وتنظيمها حول بعض كتبه المفضلة، هي “أورستيا” لإسخيلوس، و“إنسان مفرط في إنسانيته” لنيتشه، و“قصائد” لتوماس ستيرنز إليوت، و“عصر الإنسان” لميشيل ليريس، و“التجربة الداخلية” لجورج باطاي و“قلب الظلمات” لجوزيف كونراد.
 
ستة أعمال شعرية وأدبية وفلسفية تمّ اختيارها ووضعها في علاقة مع لوحاته في سينوغرافيا طريفة، حيث جعلت ما بين كل فضاء مخصّص للوح ثلاثي من أعمال بيكون بِنْياتٌ شاغرة في الظاهر، ولكنها مملوءة في الواقع بأصوات بعض الممثلين المعروفين أمثال ماتيو أمالريك، ودوني بوداليداس، وجان مارك بار، وكارلو برانت، وهم يقرأون بالفرنسية أو الإنكليزية فصلا أو أكثر من المؤلفات التي يعشقها الرسام البريطاني.
 
ولبيكون علاقة خاصة بالكتب، فهو يصنفها إلى كتب نذوقها فقط، وثانية نلتهمها، وثالثة ينبغي مضغها وهضمها. وهذا الصنف هو الذي نهل منه فنّه، فانضم إلى كون فلسفي يتقاسمه مع كتابه وفلاسفته الأثيرين. أولئك الذين أوحوا له أعماله وموتيفاته يوحدهم كونٌ شعري ويشكلون ما يشبه عائلة روحية، يتمثلها ويحس بانتمائه إليها، فهم يشتركون في رؤية واقعية غير أخلاقية عن العالم، وتصوّر للفن وأشكاله متحرّر من النظرة المسبقة للمثالية، على غراره هو، المثليّ المتمرد على قوانين إنكلترا التي كانت تحرّم الشذوذ حتى عام 1967.
 
 
هذه الزاوية الأدبية التي نظر بها مصمّمو المعرض إلى أعمال بيكون، تؤكد ما يسم أعماله من إثارة، فالألوان المائعة، كالبرتقالي الساطع، والأصفر الليموني، والأخضر اللوزي، والوردي الفاقع، وكذلك وضع الأجساد المعذّبة يذكر بالتراجيديا اليونانية وخاصة أسطورة بروميثيوس وظهور اليومينيد، آلهة الندم، التي تغنّى بها أسخيلويس. فهي تتميز بالعنف، ولئن كانت تقع على تخوم التجريدية، فهي مصوغة من أجساد موجوعة، محاطة بالأدران، ملتوية من شدّة الألم، بل ومنفلتة من إطارها، وكأنها هاربة من الجحيم الذي وصفه كونراد في “قلب الظلمات”.
 
وما اختياره نيتشه إلّا لأنه يقاسمه شكه في كل قيمة أو عقيدة. فعالم الأفكار في نظر بيكون لا ينبغي أن يتدخل في رؤية الفنان وإحساسه المخصوص بالواقع. ومن ثَمّ غابت عن فنه الرمزية والرسالة، ومن ثَمّ أيضا كان رفضه وضعَ اسم لأسلوبه، فقد ظل وفيا للتصويرية في فترة شهدت هوسا بالتجريدية، يرفض أن تغطي بنى الذهن الإدراك الأولي للأشياء، وخصوصا حضور الآخر وجسده. حتى شخوصه المشوهة بشر قبل كل شيء، قد يرى فيها بعضهم تشويها للواقع، وقد يرى غيرهم رؤية طبيعية للوضع البشري.
 
هو فنان الأجساد الملتوية والممزقة والدامية لا محالة، ولكنه أيضا فنان الدواخل، وأعماله تثير فينا شعورا بالانقباض، ولاسيما الألواح الثلاثية التي أنجزها وفاء لروح صديقه جورج داير، الذي انتحر في فندق باريسي، عام 1971، قبل يومين من افتتاح المعرض الذي خصّصه له القصر الكبير.
 
إن ما يرسخ في ذهن الزائر أن بيكون يروي حكايات، مرسومة في فصول أخرجت بفنية عالية على صفحات ألواحه الثلاثية، حيث العناصر مبثوثة مثل رموز ينبغي فك شفرتها، ولكل واحد أن يتقرى فيها حكايته. هذا التنوع بين لين الألوان الزاهية أو الساطعة، وبين عنف الصور المعذّبة فيه إرباك مثلما فيه من قوة جذب.
 
لقد كان بيكون حريصا على رسم الحياة نفسها، أي رسم الحركة في تواصلها واسترسالها، ما يعني صعوبة التقاطها وتثبيتها في لوحة جامدة، لذلك رسم الحركة ليقاوم ذلك الوضع الجامد، من خلال رسم أطر الروح المعذبة، والذاكرة الحية والغائمة في الوقت نفسه، دون أن يجمّل أي شيء، بل يكتفي بعرض الحياة الحق، كما يتصوّرها، أي كتراجيديا إغريقية تحاول أن توفّق بين المتناقضات، وتقبل الانحدار والسقوط كوجه من وجوه مهابة الوجود وجلاله.