بعدما انكسرت التسوية الرئاسية، وماتت معها كل محاولات تسويقها والترويج لها بأنها عمود الخلاص للبنان، لم يعد ممكناً الحديث عن إعادة لحمها او ترميمها لأنها أشبه بلوح زجاجي تحطّم، بل صار السؤال يبحث عما بعد هذا الانكسار.
 

أحد طرفي التسوية، والمقصود هنا الرئيس ميشال عون ومعه «التيار الوطني الحر»، لا يجد حرجاً في إبداء الشعور بالزّهو، لتمكنه من كسر الطرف الآخر من هذه التسوية، وإبعاده خارج حلبة حكم، كانت تلك التسوية تقضي بأن يثبت فيها على مدى العهد.

 

قبل ثلاث سنوات، قلّة كانت على يقين بأنّ التسوية الرئاسية يمكن أن تهتز في أيّ وقت، مع اهتزاز عوامل الدفع التي أنتجتها، ولم تكن هذه القلة، ومعها كل الآخرين، في حاجة إلى أكثر من بضعة أيام، لكي يتأكد يقينها من هشاشة التسوية، حينما استغرق تشكيل حكومة الحريري الاولى نحو شهرين، بعد انتخابات الرئاسة، وايضاً حينما أفرزت الانتخابات النيابية موازين قوى جديدة، تعطّل بعدها تشكيل الحكومة الحريرية الثانية لنحو عام، تحوّل معها مجلس الوزراء ميداناً للتراشق السياسي، بدل العمل على تنفيذ الخطط الإصلاحية، التي لو نُفِّذت لجَنّبت اللبنانيين كل ما جرى منذ 17 تشرين الأول، ولوَضعت لبنان على السكة الصحيحة، بدلاً من إدخاله في نفق ليس في الامكان تقدير نهايته.

 

إمتداداً لما سبق، لا يمكن التوقع أنّ ثمة تسوية سياسية قادرة على تشكيل الحكومة الجديدة، خصوصاً أن الوضع الإقليمي والدولي لا يَشي بأيّ انفراجات ممكنة، في ظل مضي القوتين الأكثر تأثيراً في السياسة اللبنانية (الولايات المتحدة الاميركية وايران) في مسار المواجهة، إلى أن تقول صناديق التصويت الأميركية كلمتها.

 

انطلاقاً من ذلك، ليس من الممكن وضع تكليف حسان دياب في سياق تسوية سياسية مستدامة، خصوصاً أنّ المناخ الاقليمي - الدولي لا يتيح الفرصة أمام تسويات من هذا النوع، أقلّه على المدى المنظور.

 

حتى وإن نجح دياب في مهمّته الصعبة، وتمكّن من تشكيل حكومة، فقد لا تكون سوى مرحلة انتقالية، نحو أحد أمرين، فإمّا انها لتسوية جديدة سواء كانت هشّة أم ثابتة، وإما ستذهب بالبلاد إلى انفجار كامل، على وقع الانهيار الاقتصادي.

 

بهذا المعنى، فإنّ حكومة دياب، إن شُكّلت، ستعمل ضمن هامش ضيّق، تقاطعت عنده متغيّرات إقليمية - دولية، من بينها نجاح الفرنسيين السّاعين الى حماية مصالحهم اللبنانية، في إقناع الأميركيين بالتهدئة، وما يتردّد عن انتقال ملف لبنان في وزارة الخارجية الاميركية من ديفيد شينكر الصدامي، إلى ديفيد هيل التفاوضي، ناهيك عن البرودة الخليجية تجاه الأزمة اللبنانية، والتي يقال انّ بعض أطراف هذه البرودة يقارب المشهد اللبناني على طريقة «دعهم ينهارون، لكي نقطف في الانهيار ما لم نستطع قطفه في الصدام المباشر».

 

تبعاً لذلك، يمكن توقّع ما ستؤول إليه خريطة النزاعات في لبنان خلال المرحلة المقبلة، بمستويين سياسي واقتصادي، تتفرّع منهما مستويات ثانوية.

 

على المستوى السياسي الأول، بات واضحاً، منذ استقالة سعد الحريري، و»عزوفه» عن تشكيل الحكومة العتيدة، وبينهما المؤتمر الصحافي الذي نعى فيه جبران باسيل التسوية الرئاسية، أنّ النزاع الأبرز سيكون في المرحلة المقبلة ومحوره ثنائية التناقضات بين الرجلين.

 

ما يزيد من حدّة النزاع وخطورته، أن باسيل والحريري خرجا مُربكين جداً من الانتفاضة الشعبية التي تفجّرت كحراك اقتصادي - اجتماعي، وسرعان ما تحوّلت جزءاً من النزاع السياسي العام في البلاد.

 

في ما يتعلق بباسيل، يبدو واضحاً أنّ الرجل يستشعر تراجع شعبية تياره في الشارع المسيحي من جهة، وانكشاف نقاط ضعفه خارجياً من جهة ثانية، وذلك على وقع الضربة التي ألحقتها الانتفاضة الشعبية بصورته بشكل خصوصي، وبالعهد بشكل عمومي.

 

بذلك، لن يكون أمام باسيل سوى الذهاب بعيداً في المواجهة ضد المسؤول عمّا وصلته إليه الحال سياسياً، والمقصود بذلك سعد الحريري، وهو ما يعني أنّ باسيل سيكون مضطراً لاستخدام كل ما بقي في جعبته من أسلحة سياسية، طالما أنّ معركته تحوّلت إلى ما يشبه «حرب وجودية» سياسياً، مع تضاؤل فرَصه الرئاسية المستقبلية إلى ما يقترب من الصفر.

 

على الجهة المقابلة، تَشي تحرّكات الحريري بإرباك شديد، مرارة مزدوجة يشعر بها؛ مرارة أولى مما دفع أو بمعنى أدق مما دُفِّع من أثمان وأكلاف جراء ركوبه موجة التسوية الرئاسية، وتحديداً على المستوى السعودي. ومرارة ثانية من طرف سخّر هذه التسوية جسراً للعبور الى تحقيق غاياته وفرض غلبته على سائر الاطراف، وفي نهاية الشوط غدر به، ويُضاف ذلك الى الجرح العميق الذي حفر مسافات موجعة في عمقه، والذي تبدّى في تَخلّي كل حلفائه عنه، في اللحظة الحاسمة التي سبقت الموعد الثاني للاستشارات النيابية، وهو ما يَشي تخلياً سياسياً يتجاوز الحدود اللبنانية ليصل إلى الرياض وواشنطن، وربما باريس.

 

ولعلّ ما يفاقم أزمة الحريري السياسية أنّ جبهته الداخلية - تيار «المستقبل»- تبدو أكثر هشاشة من أيّ وقت مضى، وهو مسار بدأ منذ التسوية الرئاسية، وتَكرّس بعد الانتخابات النيابية، مع بروز شخصيات تحاول أن ترث زعامته السنّية، متسلّحة بدعم خارجي، وخليجي تحديداً.

 

هذا ما جعل الحريري يمضي عشوائياً نحو مغامرة سياسية، تبدّت فصولها في ليلة التكليف، وما تبع الإعلان الرئاسي بتسمية حسان دياب بعد الاستشارات النيابية، من تحرّكات في الشارع، بلغت مستوى غير مسبوق من الشغب خلال الشهرين الماضيين، ثمة ما يبعث على الاعتقاد أنه كان راضياً عنه، وان موقفه العلني كان مغايراً.

 

وإذا كانت «الحرب الوجودية» هي ما سيحكم سلوك باسيل في المرحلة المقبلة، فإنّ «الحرب الوجودية» نفسها ستكون هي السِمة البارزة في المعركة التي سيخوضها الحريري، مع فارق جوهري أنّ الأخير لم يعد يمتلك سوى ورقة الشارع، التي قد يستخدمها إلى أبعد مدى، بعدما أخرجته الانتفاضة الشعبية، معطوفة على اللعبة السياسية، جريحاً.

 

وأما المستوى السياسي الثاني في النزاع الحالي، فيتسِم ببعد استراتيجي، ويتصل بمقاربة «حزب الله» للمرحلة المقبلة، والتي يبدو واضحاً أنها تتجاوز الميدان اللبناني، في اتجاه نزاع أشمل، يتصل بالمواجهة المباشرة مع المخططات الاميركية ـ الاسرائيلية. ومن هنا تمسّك «حزب الله» بدايةً بالحريري، في اعتباره فرصة لعدم تصوير المشهد السياسي في لبنان، على أنّ البلد محكوم بحكومة «حزباللّاوية».

 

ويبدو أنّ «حزب الله» يسير على النهج نفسه في تجنيب لبنان مخاطر العزل الخارجي، وهو ما يفسّر الانتقال من فكرة الحكومة التكنو-سياسية إلى حكومة الاختصاصيين، بما يسحب فتيل أيّ تحريض من قبيل الحملة التي سادت بعد تكليف دياب، والتي كان عنوانها العريض أنه «رئيس حكومة حزب الله».

 

تبعاً لذلك، فإنّ الاعتقاد الداخلي العام حذر، وبنظرة تشاؤمية اكثر منها تفاؤلية حيال حكومة دياب. وبالتالي، لا يرى أنها إن شكّلت، ستكون بمنأى عن مخاطر الداخل والخارج.

 

ويبدو ذلك جلياً في ازدياد عدد الرافضين الانضمام إليها، ابتداءً بتيار «المستقبل» و«القوات اللبنانية» «و«الحزب التقدمي الاشتراكي»، وصولاً إلى الحراك الشعبي، ما يجعلها أمام أحد احتمالين:

 

ـ إمّا ان تكون حكومة هشّة فاقدة الغطاء السياسي الجامع، والضروري لتحقيق أجندة الاصلاح.

ـ وإمّا أن تكون حكومة «لون واحد»، بغطاء القوى المتضررة من السياسات الاميركية، وعندها تكون المواجهة على طريقة «مُكره أخاك لا بطل».