شوارع العاصمة باريس تشهد ازدحاما كبيرا بفترة أعياد الميلاد ونشاطا تجاريا مهما، إلى جانب الإجراءات الأمنية وانتشار عناصر الشرطة في الأماكن المزدحمة.
 
ولكن وسط هذا الزحام كانت هناك سيدة تتحدث عبر الهاتف بانفعال، وتقول لمخاطبها "لم أعد أحتمل عيد الميلاد، أنا أشعر بالإرهاق، ويتوجب علي مواصلة التسوق والبحث عن هدايا أخرى لتقديمها"، يقول الكاتب بينيدكت ليتو في تقرير نشرته صحيفة لوفيغارو الفرنسية.
 
وفيما ترتبط فترة الأعياد بأذهان الأغلبية بالفرح والسعادة ولم شمل العائلة فإنها بالنسبة لآخرين تعد فترة غير مرغوب فيها، بسبب ما يرافقها من إنفاق كبير للمال، وضغوط المشاركة بتنظيم احتفال يجب أن يكون بهيجا، إلى جانب الخلافات العائلية التي قد تطفو على السطح، وشعور البعض بالوحدة إذا لم يكن لديهم من يشاركهم الاحتفال، فالنزعة الاستهلاكية والضغوط العائلية والشعور بالوحدة واستحضار الذكريات الأليمة كلها أسباب تجعل بعض الأشخاص لا يحبون فترة أعياد الميلاد، ويتصرفون خلالها بطريقة انزوائية أو سلبية.
 
وهم الاستهلاك
بالنسبة لهيركولانو -وهو متقاعد (69 عاما)- فإن شراء شجرة الميلاد والزينة المصاحبة لها أمر غير وارد تماما، ويعتبر أن هذا الاحتفال كان في الأصل خاصا بالوثنيين، قبل أن ينتشر بين المسيحيين.
 
ويعتبر هيركولانو أن عيد الميلاد أصبح حفلة تجارية يجب أن تتوقف، لأن من لا يمتلكون الموارد المالية اللازمة لمجاراة الآخرين يشعرون بالذنب ويتحرجون من عدم قدرتهم على تقديم الهدايا، ولذلك فإن الكنيسة يجب أن تتدخل للتصدي لهذا الاستغلال التجاري ليوم ميلاد المسيح الذي تحول إلى سوق ضخم.
 
الرأي نفسه تتبناه الشابة ماري (24 عاما)، وهي بصدد تحضير أطروحة الدكتوراه، وتشكو من الضغط الاستهلاكي المفروض على الناس بهذه الفترة لشراء أشياء لا يحتاجونها، ورغم الجهود لنشر الوعي وتشجيع الناس على التوقف عن شراء الهدايا فإن الأمر لم ينجح، بحسب الكاتب.
 
التوترات العائلية
تتسم فترة الأعياد أيضا بنشوب أو تجدد الخلافات العائلية، مثل أن يغتنم الأبوان أو الإخوة هذه المناسبة لتصفية حسابات قديمة، وهذا حال مهندسة الحاسوب شارلين (38 عاما) التي توقفت عن قضاء هذه المناسبة مع عائلة شقيقها، بسبب خلاف مع زوجته، مما دفعها إلى مغادرة الطاولة والذهاب للنوم تلك الليلة، والمغادرة صبيحة اليوم التالي.
 
أما ماري فتربط عدم حبها لهذا الاحتفال بذكرى سيئة في حياتها، وهي انفصال والديها عن بعضهما، ولذلك فإن احتفالات أعياد الميلاد تمثل ضغطا على أمثالها الذين يشعرون بأنهم مجبرون على الانضمام للعائلة، ومشاهدة الخلافات تنشب من جديد على طاولة العشاء، ولذلك قررت مع أشقائها وشقيقاتها التوقف عن العودة لمنزل العائلة في الأعياد.
 
إستراتيجية الانسحاب أو النجاة
وتقول ماري إنه "خلال العام الماضي تخلفنا أنا وأخي عن الاحتفال العائلي، والتقينا في برلين بألمانيا حيث يعيش، واحتفلنا مع مجموعة أصدقائه، نحن ضقنا ذرعا بالتقاليد والضغوط والعادات العبثية وكومة الهدايا وحفلة طعام تستمر ست ساعات"، وقوبل هذا التصرف باستهجان العائلة، خاصة والدتها التي عبرت عن انزعاجها، واعتبرت أنه تصرف يرقى لمستوى الخيانة.
 
شارلين تتمنى لو أنها تمتلك الشجاعة للنسج على منوال ماري، إلا أنها مثل كثيرين لا يتجرؤون على تجاوز الخطوط الحمراء، وتقول "فكرت بالذهاب في رحلة بعيدة خلال هذه الفترة، لتكون لدي ذريعة للتخلف عن الاجتماع العائلي، ولكني لم أمتلك الشجاعة لإعلان ذلك، لأن الأمر قد يساء فهمه".
 
وعوضا عن ذلك قررت وضع إستراتيجية غريبة لتنفذها في سهرة عيد الميلاد "سأتظاهر برعاية الأطفال الموجودين في البيت، وأشغل نفسي بهم طوال الوقت، وهذا الأمر سيمكنني من البقاء بعيدا عن طاولة الطعام".
 
أما هيركولانو ورغم عدم اقتناعه بالمظاهر الاحتفالية والمادية التي تصاحب هذه المناسبة فإنه قرر مجاراة الأمور تجنبا للانقسامات العائلية التي قد تتواصل لوقت طويل بعد انتهاء المناسبة، وقال إن "هنالك 365 يوما يمكن أن تجتمع فيها العائلة، فلماذا يتم التركيز فقط على هذا اليوم، أنا منزعج جدا بسبب شعوري بأنني مجبر على إحضار هدايا، ولكنني أجاري اللعبة، لأنني لا أريد تحويل الأمر لحرب داخل العائلة، وفي النهاية أحب الالتقاء بالأقارب بأي وقت، لتبادل الأحاديث وتناول العشاء".
 
الوحدة أو الذكريات المؤلمة
بالنسبة لأشخاص آخرين فإن هذه المناسبة تذكرهم دائما بالحرمان من العائلة، أو رحيل شخص عزيز عليهم، هذه الذكريات الأليمة تتأجج باللحظات التي يستمتع فيها أغلبية الناس بالاحتفال بعيد الميلاد، ومن هؤلاء عجوز كان يتجول بين المحلات، دون أن يخفي تخوفه من المناسبة، ويقول "أكره مساء يوم 24 ديسمبر من كل عام، أنا أدير مقهى وسط المدينة، وفي كل سنة خلال هذا اليوم يطلب مني بعض الزبائن عدم إغلاق المقهى والبقاء معهم لوقت متأخر، لأنهم مثلي تماما يخافون من لحظة العودة للبيت، حيث يشعرون بالوحدة ويتذكرون شخصا عزيزا عليهم".
 
والأمر نفسه ينطبق على إيزابيل التي فقدت ابنتها البالغة من العمر خمس سنوات بعد إصابتها بسرطان الدم، وبعد هذه الفاجعة لم تعد تشعر بطعم الاحتفالات، كما تشعر في كل مرة يجتمع فيها أفراد العائلة بأنها تلتقي مجددا وجها لوجه مع الحقيقة المرة، وهي أن ابنتها لم تعد موجودة معها.
 
واختتم الكاتب بأن أعياد الميلاد يمكن أن تكون مناسبة للتضامن والتواصل مع الآخرين حتى لو كانوا غرباء، حيث إن هنالك متطوعين وجمعيات خيرية يتوجهون لقضاء الوقت مع من يعانون من الفقد أو الوحدة، لإشعارهم بالسعادة خلال هذه المناسبة.