من غير الممكن اليوم ان أصدق اننا أبناء ذات البلد، يجمعنا الهم المشترك والعيش المشترك كذبة.
 

أصعب ما في الأمور البدايات، وأصعب ما في البدايات أنك تكون في طور التعرف إلى ما هو غريب عنك، لربما أغرد خارج السرب ولربما حالنا اليوم يشبه كل شيء واللاشيء، شيء مبهم محاط بمستقبل سديمي مغبر، ضبابي عاصف وربما رياحه خمسينية، وصلت مرحلة الملل واليأس من الكتابة من السياسة من المتابعة من الحروف، حتى الحروف يأست مني، أود أن اعبر عن كل ما يجول في خاطري بأقل جرعة من الدخول في متاهات السياسة وعواصفها، الحراك ومحركاته الداخلية والخارجية، السلطة ومؤثراتها السمعية والبصرية،.. ويا للهول ،حتى الطقس في لبنان لا يشبه هذي الايام في سنين غابرة، فلا امطار في فصل الشتاء وان امطرت أهلا بالمستنقعات والمحيطات ونتانة البحار وملوحة الأرض وحقد البشر.

 

لنعود إلى القصة من بدايتها، لبنان لم يكن يوما بيئة حاضنة لكل ابنائه، لم يكن يوما حضنا للعيش المشترك، والحراك وما يدور في فلكه وما يتعمشق على ظهره من فتن واقتتال طائفي ليس بسبب ولكن نتيجة لكل التراكمات السابقة، سواء من غرسها بنا العثماني ام الفرنسي ام ما استغلته الاحزاب.. لكن ،كل ما في الأمر أنهم كذبوا علينا في كتب المدرسة وفي المناهج، لن اتحدث بالعموم ولن اغوص في الاوهام، اود ان اتكلم عن نفسي وعن تجربتي في هذا الصدد، والخاص كالعام، فأنا اشبه كل ابناء الوطن لكن كل من وجهة نظره ومن منبعه وثقافته يرى الأمور. 

 

ولدت في عائلة شيعية في أواخر التسعينات في بعلبك، اليوم عندما اقول بعلبك يجول في خاطرك فورا موضوع الحشيش والسلاح اللاشرعي، والكرم والقلعة والطعام الشهي والمونة، نعم صحيح كل هذا في بعلبك لكن نسيت الثقافة، العلم، العراقة، الإبداع، وهذا لدينا منه في بعلبك وكذلك الحرمان والفقر وما تحت خطه والنقص في الخدمات وانعدام الوظائف والفرص التي تتناسب وقدراتنا التعليمية والواسطات التي لا نطال منها الا ما ندر، ولدينا ايضا نواب لم يعملوا لاجلنا ولم يذكرونا من خيراتهم وفائضها.

 

 وهكذا.. ولكن ليس هذا ما احببت اليوم ان اكتبه، اليوم اكتب لاسرد حكايتي مع الطائفية، كيف رضعتها وكبرت في داخلي، ولا ينكر احدكم هذا، فنسيج لبنان مذهبي طائفي احمق، لم تكن الطوائف نقمة انها نعمة لكن النقمة في الطائفية وهذا ما اوصلنا الى كل هذا الدمار، جعلنا ركاما حطاما مجرد فتات ورماد تدوسه كل يوم أقدام اولئك الذين يتقاسمون الخراب حين تأتيهم الأوامر من صناع القرار.

 

نعم المذهبية غرست في جوفنا منذ نعومة اظفارنا، غذتها الاقدار واخفتها المناهج التعليمية، سأخبرك كيف؟
عندما كنت طفلة، كنت اسمع حديث اهلي وهم يقولون، ان عمي الذي يعيش في الغربة زوجته سنية، لم اكن افهم يومها ماتعنيه كلمة سنية، وعندما كنت في السادسة من عمري وكان يومها العاشر من حزيران من العام ٢٠٠٠ يوم وفاة الرئيس حافظ الأسد قال لي جدي علينا أن نبكي القائد لانه علوي، وعندما سألته ما معنى علوي قال يعني متل الشيعي،لربما جدي الأمي غرس في نفسي بذرة صغيرة منذ ذاك الوقت ونبتت مع الزمن. لكنهم كانوا يقولون نحن لا نفرق بين الاديان جيراننا في بياقوت كانوا مسيحيين ايام الحرب الذبح على الهوية، ولكن التناقض وازدواجية المعايير تبرز للعلن حين يتهامسون عند حضور زوجة عمي السنية وهي تصلي مكتفة اليدين.

 

في المدرسة كنت أظن أن الكل شيعة، وكنا ندرس بنفس كتاب التربية الدينية ونبكي الحسين في عاشوراء سوية، لربما كان ذلك طمعا في هدية المعلمة لمن يذرف الدمع، ولربما هذه براءة الطفولة التي تثق بكلام المدرس اكثر من اي كلام، كنا نظن أن المدرس يعرف كل شيء، حين يعلمنا أن لبنان عربي الهوية والانتماء، فيه العيش المشترك مضمون وحرية المعتقد  و و و... كل تلك الشعارات صدقناها، وآمنا بها رغم ازدواجية المعايير مع ما كنا نسمع داخل المنزل، وربما لأنني كنت اظن ان الكل شيعة.

 


لا أنسى أن مدير مدرستي كان يقول في كل احتفال أن لا فرق في كيفية صلاتك المهم اخلاقك، ولا عجب أن اعرف ان زميلتي التي جلست على نفس طاولتي وزارتني في منزلي ووقفت بجانبي وحدها يوم توفي ابي، كانت سنية، اكتشفت هذا في الصف الحادي العشر، وعن طريق الصدفة، فماذا تبدل بعد أن علمت أن مذهبها غير مذهبي؟ لماذا عند استشهاد الرئيس الحريري اصرت امي ان لا اتكلم بالموضوع مع زملائي في الصف ولا انقل ما يقال في المنزل وانا التي عرفت بحبي للسياسة منذ مراحل عمري الأولى، ولم كان الكل يبتعد عن تلك الطالبة التي رأيناها على شاشة التلفاز تشارك في ذكرى 14‪ شباط يوم خلع الرئيس سعد الحريري جاكيته، يومها قالت لي، لقد خلع من الحرارة المرتفعة في بيروت،هي سنية واهلها مع تيار المستقبل، وانا شيعية واهلي محسوبون على حزب الله. 

 

 

المذهبية نهشتنا،اكلتنا، وأكملت السير في جسدي تلتهم ما بقي، عندما اصبحت في الجامعة وكانت الاحداث في سورية قد اندلعت وبدأت منطقتنا تستقبل شبانها شهداء بمنطقي، قتلى بمعايير سواي، كان الاحتقان تلك الفترة اشده، في الجامعة تعرفت على ابن بيروت وابن الجنوب وابن برجا و... لم يكن مثلي، يختلف عني، هو مع فلان وانا مع فلان، كيف اخبرونا في المدرسة اننا في بلد واحد، نحن في ولايات، بيروت ستان، بعلبك ستان،... وهكذا، من غير الممكن اليوم ان أصدق اننا أبناء ذات البلد، يجمعنا الهم المشترك والعيش المشترك كذبة، وما قاله دكتوري في العلوم السياسية انه تناول فطوره في طرابلس وطعام الغداء في صيدا و العشاء في بعلبك ما هو الا مسرحية، نحن نكن لبعض الحقد والكراهية، نحن شعب نكذب، نتعلق بالشعارات ونستميت لأجلها وهم على الطاولة يشربون كأس تناحرنا.. لن يصلح حالنا..لن يكون لبنان للجميع.. ولم يعد في العمر بقية.