«غدٌ بظهر الغيب واليوم لي        وكم يخيب الظنّ بالمقبل»           (رباعيات الخيام)

 

في مراجعة طويلة ومضنية لأشكال أنظمة الحكم في المدن اليونانية القديمة، إستنتج أرسطو ما مفاده أنّ أي نظام حكم لا يمكن أن يكون كاملاً ويمكن تطبيقه في كل آن ولا في كل مكان، وبالتالي فإنّ الهدف من أي حكم هو الوصول إلى أفضل تطبيق يؤدي إلى سعادة الناس.

 

وسعادة الناس بالنسبة إليه تكمن في ما سمّاه «الوسط الذهبي»، أي عدم الإفراط في أي شيء لأنّ الحقيقة المطلقة لا يمكن بلوغها، وكل ما هو حقيقي بعيون البشر، ما هو سوى نوع من التوافق المحدود في الوقت والجغرافيا والمجتمع.

 

ما لنا ولكل ذلك؟ فالحديث هو أنني تذكرتُ أنّ النظام الديموقراطي، الذي يستند إلى حكم الأكثرية، إن لم تكن له ضوابط دستورية صارمة، فهو سيتحوّل بسهولة، عند قدوم شخصية نرجسية معقّدة من خلاله إلى سدّة المسؤولية، إلى كارثة تذهب بالديموقراطية وأهلها إلى الدمار.

 

تجربة ألمانيا هي أكبر برهان، فهذا الكيان الذي أعطى العالم أعظم الفنانين والشعراء والمشرّعين والفلاسفة، أوصَل رغم ذلك إلى القيادة، وعبر انتخابات ديموقراطية، أدولف هتلر الذي تمكّن بخطابه التضليلي، وباستهزائه بالسياسة والثقافة، أن ينصّب نفسه طاغية على ألمانيا، ومن بعدها على أوروبا.

 

لقد فشلت ديموقراطية ألمانيا سنة 1933 بحماية نفسها من الإلغاء على يد من أوصَلته إلى الحكم، وكانت النتيجة أن دخل العالم في مأساة إسمها الحرب العالمية الثانية، قتلت 55 مليون بشري ودمرت ألمانيا بنحو شبه كامل، وزرعت الموت والخوف في كل العالم، فجاع البشر وتشرّدوا لسنوات، ومنها ألمانيا ذاتها، قبل أن تأتي يد الغرب للمساعدة في بنائها وبناء اقتصادها من جديد.

 

أمّا في الحديث عن الميثاقية، تلك اللفظة المطّاطة صاحبة الوجوه، فهي اختراع يُعبّر بالتأكيد عن عبقرية لبنانية شديدة التذاكي، تمكنت بمكر وحذاقة من لَي ذراع الديموقراطية. لكنّ الاعتراف بأنّ الديموقراطية قد تسقط أحياناً تحت سلطة الأكثرية العددية وطغيانها، جعلنا نتفهّم طرح الميثاقية، على رغم من شوائبها، لنذهب في خيارات معادية للديموقراطية، تنسف أيّ ممارسة للحكم تحت لواء الموالاة والمعارضة. فأصبح الحكم مطلقاً ومن غير معارض عند تقاطع مصالح أركان السلطة، ومحكوماً بالقدرة على التعطيل بحكم الميثاقية عند اشتباك تلك المصالح!

 

وما لنا ولكل ذلك مرة ثانية؟ فما حصل على مدى السنوات العجاف الماضية هو أنه بحكم الميثاقية، أتى إلى الحكم من لديه الجوع والنهم الكافيين لابتلاع كل شيء، وعندما أتت مسألة الميثاقية لتنتزع لغيره ما انتزعه هو لنفسه باسمها، لم يتورّع عن إسقاط هذه الميثاقية بالضربة القاضية.

 

ما لم يفهمه من ضرب الميثاقية اليوم هو أنّ أساس الميثاقية ما قاله رفيق الحريري قبل أن تغتاله يد الشر المعروفة والمتحالفة مع ضاربي الميثاقية، وهو «لقد أوقفنا التعداد».

 

وبما أنّ التاريخ لن يتوقف على واقع اليوم، وهو سيستمر إلى غد وما بعده.

 

لذلك فسيأتي يوم يقول فيه من تضرّر اليوم من ضرب الميثاقية «طالما أنّ الميثاقية ضُرِبت، فلنعد إلى التعداد!»

 

عجيب هذا العالم وعجيبة تلك البشرية، فيكفي أن يأتي نرجسي واحد، ليقضي على ما بَنته أجيال.