اعتباراً من الاسبوع الاول من السنة الجديدة، ستبدأ فعلاً، عملية «تقريش» التكليف، وتظهير الخيط الابيض من الخيط الاسود على حلبة التأليف.
 

واضحٌ انّ الرئيس المكلّف حسان دياب، يسير وفق برنامج ممنهج، مُحدداً وجهته نحو حكومة «تشبهه»، وهو ما أبلغه صراحة الى كل من التقى بهم قبل تكليفه، وفي مقدّمهم الرئيس ميشال عون.

 

المراقب لحركة الرئيس المكلّف، يلحظ الجهد الحثيث الذي يبذله لاختراق الواقع المحيط بتكليفه، سواء المتصل بالانقسام السياسي، أو المتصل بما يجري ترويجه عن ميثاقية مفقودة، أو عن حُرم سنّي على ترؤسه الحكومة، وبالتالي تقديم نفسه شخصية جامعة يدها ممدودة في اتجاه كل الاطراف السياسية، وكل مكونات الحراك الشعبي، وعلى كثرتها، سيحتاج الرئيس المكلّف الى وقت طويل جداً، إن قرّر استمزاج رأيها، وتدوين مطالبها واستخلاص العناصر المشتركة في ما بينها، وطريقة استخراجها من مواقفها المناقضة جذرياً لبعضها البعض.

 

ما يلفت الانتباه، في موازاة الصخب السياسي المحيط بتكليف دياب، وما يرافقه من تحرّكات تبدو «منظّمة» ضده في الشارع، أنّ الرئيس المكلّف متفائل في تجاوز ما وصفه حقل الالغام المزروعة، أو التي قد تُزرع في طريقه، واكثر من ذلك، يبدو واثقاً من تمكنّه من كسر قاعدة «التأليف الطويل الأمد» التي ارتكز عليها تأليف الحكومات السابقة من ثلاثة الى أربعة أشهر وصولاً الى احد عشر شهراً من المماطلات والمماحكات السياسية، واستبدالها بقاعدة «التأليف القصير الأمد» يتراوح من شهر الى ستة اسابيع كحدّ أقصى لإبصار حكومته النور.

 

قد يبدو انّ تفاؤل دياب، مبالغاً فيه، بالنظر الى الواقع السياسي المنقسم حوله، والى الحراك الصاخب في الشارع إعتراضاً على حلوله في الموقع الذي يعتبره المحتجون في الشوارع من حق الرئيس سعد الحريري حصراً، لكن هذا التفاؤل قد يبدو طبيعياً جداً في المقابل، بالنظر الى الامر الواقع الذي ظهر في البلد أقلّه منذ تكليفه وحتى اليوم، والذي عكس بوضوح:

 

أولاً، انّ المظلة الخارجية باتت مؤمّنة لحكومة برئاسة دياب، وانعكس ذلك في الموقف الفرنسي، اضافة الى الموقف الاميركي الذي إن لم يكن مؤيّداً فهو ليس ممانعاً، والموقف الاميركي بطبيعة الحال ينسحب على حلفاء واشنطن من الدول العربية. ولعلّ الرسالة العاكسة لهذا الموقف عبّر عنها مساعد وزير الخارجية الاميركية ديفيد هيل، الذي جاء موقفه ليّناً حيال الملف الحكومي، ومشجعاً على تشكيل حكومة بمعزل عمّن ستضمّ، خلافاً لترويج بعض القوى الداخلية قبل تكليف دياب، عن شروط اميركية قاسية حيال الحكومة الجديدة وشكلها، و«فيتو» اميركي على وجود «حزب الله» فيها. وقد حضر هيل الى بيروت يوم التكليف، ولم يأتِ من قريب او بعيد على ذكر «حزب الله»، برغم انّه احد اضلاع المثلث: أمل، حزب الله، التيار، الذي قام عليه التكليف.

 

ـ ثانياً، انّ الحراك الشعبي، وما نبت حوله من حراكات سياسية مقنّعة بالمطالب، اصيبت كلها بالوهن دفعة واحدة، وكأنّ «كبسة زر» ضُغطت من مكان ما، بحيث بدا هذا الحراك خارج المسرح الذي احتله منذ 17 تشرين الاول. وهو الامر الذي اثار في اجوائه كثيراً من التساؤلات وعلامات الاستفهام. حتى انّ الرئيس المكلّف الذي فتح بابه للتشاور مع هذا الحراك، وجد صعوبة في مع من سيتشاور. ونقطة ضعف الحراك هنا، تبدّت في عجزه عن تحديد ممثلين عنه وانتدابهم للحديث باسمه مع الرئيس المكلف.

 

ـ ثالثاً، انّ المظلة السياسية الداخلية التي تغطي دياب، والتي يؤمّنها «الثنائي الشيعي» و«التيار الوطني الحر» وحلفاؤهما، تبدو متماسكة في ما بينها، وأظهر التكليف بشكل لا لبس فيه أنّ الميزان الداخلي مختل لمصلحتها، وثمة قرار نهائي في هذا الجانب بترجمة التأليف ضمن مهلة قياسية، اياً كان شكل الحكومة الجديدة، تكنوقراط كاملة، او تكنوسياسية. فمهلة الشهر أو الاسابيع الستة التي حدّدها دياب لتأليف الحكومة، محصّنة بالقرار المذكور، بحيث قد تكون الولادة الحكومية ضمن مهلة حدودها النصف الاول من كانون الثاني المقبل. اما المولود، فهو حكومة مصغّرة من 18 الى 24 وزيراً، مع ارجحية لحكومة الـ18 وزيراً، والأساس فيها ان كانت تكنوسياسية، اسناد الوزارات السيادية الاربع فيها الى وزراء غير سياسيين.

 

وهنا يبرز تأكيد لأحد المراجع السياسية بقرب ولادة الحكومة، حيث يقول: «في الأساس كنا نضيّع اشهراً على التأليف، لكن الحال مختلف الآن، فجميع الأطراف ملتزمون قرار التسهيل. وتبعاً لذلك فإنّ ولادة الحكومة ليست بعيدة ابداً».

 

ـ رابعاً، مقابل تماسك فريق التكليف، يبرز حال من التشتت الواضح في ضفة القوى المعترضة على دياب. فحزب «القوات اللبنانية» يعزف على وتر، و«الحزب التقدمي الاشتراكي»، يعزف على وتر آخر، واما تيار «المستقبل» فيعزف على وتر مخالف للوترين.

 

فما بين «القوات» و«التقدمي»، ما تُسمّى علاقة مصلحة فقط، بحيث يتنافران او يتقاربان وفق الظروف التي تمليها.

 

وما بين الحريري و«التقدّمي»، وبمعزل عن ذكرى التحالف القديم في زمن 14 آذار، علاقة غائمة عموماً، غالباً ما تمطر مياهاً سياسية تستتبعها حال من «المدّ والجزر»، ونفور في كثير من المحطات.

 

اما ما بين الحريري و«القوات»، فهوّة عميقة، توسعت بمقدار كبير خلال ازمة الحريري في السعودية، وما اعتبره الأخير «غدر» سمير جعجع له آنذاك. وزادت عمقاً عشية استشارات الاثنين الماضي، ما اعتبره الحريري غدراً ثانياً به من جعجع، بامتناعه عن تسميته في تلك الاستشارات. هذا الغدر لا يخفي الحريري أنّه احدث جرحاً عميقاً له، فلولا موقف «القوات» هذا لكان الحريري رئيساً مكلّفاً تشكيل الحكومة منذ الاثنين الماضي.

 

تبعاً لذلك، وفي موازاة اعلان «القوات» و«التقدّمي» عدم مشاركتهما في حكومة دياب، ثمة حديث في بعض الصالونات السياسية عن احتمالات نوعية، كمثل ان يُقدم الحريري على «خطوة مفاجئة للجميع»، تحاكي بإيجابية المظلة الخارجية للحكومة من جهة، والامر الواقع الداخلي من جهة ثانية، والذي ما كان ليحصل لو انّه لم يتعرّض لما اعتبره غدر «القوات» له. وفي السياق الداخلي ثمة من يقرأ ممهدات لتلك الخطوة، تفيد أنّ الحريري وخلال لقائه الاول بالرئيس المكلّف قبل التكليف، ولقائه الثاني معه في جولته البروتوكولية على رؤساء الحكومات السابقين، ولقائه الثالث معه في الاستشارات النيابية التي اجراها الرئيس المكلّف في مجلس النواب، عكس الحريري رغبة في التعاون مع دياب، وما لمسه الرئيس المكلّف منه ليس ايجابياً فقط، بل متحمّس وداعم ومشجّع. وقد يفسّر البعض هذه الخطوة المفاجئة بأن يقرّر تيار «المستقبل» المشاركة في حكومة دياب. ولكن التفسير المنطقي لدى البعض الآخر، يفيد أنّ الحريري، قد يبادر الى منح الحكومة الثقة في مجلس النواب.

 

ولكن هناك من يسأل: طالما انّ الحريري خرج من النادي الحكومي جرّاء غدر تعرّض له من قِبل من يفترض انّهم حلفاؤه، وانّه ابلغ الى الرئيس المكلّف دعمه له، فلماذا يحرّك مناصريه ضده في الشارع؟

 

ثمة من يقول إنّ تحرّكات تيار «المستقبل» في الشارع تعبّرعن إنفعال الحريري حيال إبعاده عن الحكومة، ولكن ثمة في المقابل من يتحدث عن يد خفيّة تدير هذه التحرّكات. اذ بمقدار ما تصيب دياب، تصيب الحريري اكثر، وهو مدرك لذلك، ومن هنا جاء موقفه بدعوة المحتجين بقوله: «من يحبني فليخرج من الشارع». لكن هذه الدعوة قوبلت بالتصعيد واعتداء المناصرين على الجيش، واتبعه ببيان وصف فيه الدعوات باسم تيار «المستقبل» النزول الى الشارع بأنّها مشبوهة. وهذا يفتح على السؤال التالي: ما هي هوية « اليد الخفية»؟ هل هي من داخل تيار «المستقبل»، يديرها - كما يُقال - من يُسمّون «الصقور» فيه والمحيطون به؟ وهل هناك تعدّد آراء وتوجّهات داخل تيار «المستقبل»؟ وهل هذه اليد الخفية خارجية توحي بهذه التحرّكات من مكان ما؟ .. بالتأكيد، انّ الاجوبة ستصوغها وقائع الآتي مع الايام.