العراقيون أعطوا الأحزابَ الشيعية والسنية والكردية المتحاصصة المتشاركة في الظلم والفساد جميعَ الفرص لتعديل نفسها وتهذيب سلوكها وإثبات أمانتها ووطنيتها، ثم تبيّن، بعد كل ذلك الصبر الطويل، أن استمرارها في الحكم مرهونٌ باعوجاجها وبقدرتها على المراوغة والاحتيال.
 

يتراءى لكثيرين من المناصرين المخلصين لهذه الثورة، والخائفين عليها من البطش والغدر، ومن الإحباط، فالتراجع فالانكسار، كما حدث لانتفاضات سابقة، أن الفرح الغامر الذي أشاعته هذه الثورة يوشك أن يتبدّد، ويُعاد العراقيون الصابرون المصابرون، بعد كل الدماء التي سالت، والدموع التي انهمرت، إلى خيمة الولي الفقيه ووكلائه، ليعيشوا فيها زمنا طويلا قادما على أمل أن تقوم ثورةٌ أخرى لا أحد يعلم متى وأين وكيف ستعود.

 

ودافعهم إلى هذا الخوف الوطني المشروع هو أن أمد الانتصار قد طال أكثر من المنتظر ومن المحمول والمعقول. فمنذ الأول من أكتوبر الماضي وحتى اليوم، والثائرون يراوحون مكانهم، دون انتصار حقيقي ملموس، وأحزابُ السلطة تتفرج، وتماطل، وتستطيع أن تصبر طويلا، أسابيع أخرى أو شهورا، على تداعيات استمرار اعتصامات المنتفضين، وعلى قسوة مطالبهم التي تعني في النهاية وضع الرؤوس الكبيرة والصغيرة المسؤولة عن المذابح الجديدة والقديمة وراء القضبان.

 

ويرى هؤلاء المتخوّفون على الثورة في عجز رئاسة الجمهورية والبرلمان والكتل والأحزاب الحاكمة عن اتخاذ القرار الذي يرضي الثوار من جهة، ولا يضر أصحاب السلطة وقاسم سليماني، من جهة أخرى، إطالةً لأمد الانتظار الذي قد يصيب الثوار باليأس والقنوط وقد يدفع ببعضهم إلى ترك مواقعهم في بغداد والمحافظات الثائرة الأخرى، ويؤكدون أن طول الانتظار، مع حالة الشلل الواقع في العراق اليوم، هو موتُ الثورة البطيء.

 

والحقيقة أن جمودَ الحال، نفسه، يشكل ردا معاكسا على أصحاب هذا الرأي، وهذا هو الدليل. فالخلافات التي تعصف بأهل السلطة، وعجزُهم عن الخروج من المأزق الخانق الحالي بسلام هي انتصار يحققه المعتصمون.

 

ففي انتظار التوافق على رئيس وزراء جديد يتخبط أصحابُ السلطة، ويهينون جميع القيم والمقاييس الوطنية، ويمرغون هيبة الدولة والحكومة والبرلمان بالتراب، خصوصا في مزادات الترشيحات المُسربة المرفوضة من قبل الثوار. وهذا ما يفقدهم احترام العراقيين الذين لم يخرجوا لنجدة المتظاهرين بعد، ويقنعهم بأن الثوار على حق، وأن أحزاب السلطة أثبتت فشلها وسطحيتها وفسادها، وبرهنت على أنها لا تصلح لا للدين ولا للسياسة. وهذا انتصار آخر يضاف إلى انتصارات الثورة، لا ينكره إلا مكابر أو غافل أو عدوٌ قادم من وراء الحدود.

 

شيء آخر، إن الوطن كله اليوم في حالة لا تسرّ. فكل ما فيه متوقف ومعطل ومشلول، والدماء الزكية تتقاطر كل يوم وكل ساعة في ساحات الاعتصام، كلها، وكواتمُ الملثمين المكلفين باغتيال خيرة شباب الانتفاضة وأكثرِهم شجاعةً ووطنية وعقلانية تصول وتجول.

 

ومَن يتحمل المسؤولية كاملةً عن هذه الكوارث والخسائر الوطنية الكبرى هي أحزابُ السلطة، وحدها، ومعها النظام الإيراني الذي يملكها ويأمرها بمعاداة شعبها. وهذا ما يضاعف بغض الشعب العراقي لها ولمن يحميها، وهو عز الطلب، وغاية المراد.

 

نعم إن الشعب العراقي خسر منذ الأول من أكتوبر الماضي وحتى الأمس أكثر من 500 شهيد وأكثر من 20 ألف جريح، إضافة إلى حالات الاغتيال والاختطاف والاعتقال التي لا أحد يستطيع أن يحصر ضحاياها. ولكن هذه التضحيات الجسيمة أكسبت الثوار احترام الشعوب المُحبّة للحرية والسلام، وأظهرت النظام القائم على حقيقته، وأقنعت العدو قبل الصديق بهمجيّته ودمويّته وفساده، الأمر الذي ألجم أصحابه، ومنعهم من اقتحام ساحات الثورة بما لديهم من سكاكين وقنابل ورصاص وملثمين. ولجوؤهم إلى الاغتيال والاختطاف تحت جنح الظلام يعني أن سلاحهم أصبح معطلا، وليس بذي قيمة، وهذا انتصار آخر يضاف إلى انتصارات شباب الثورة، دون شك.

 

كما أن المحافظات الشيعية التي كانت، إلى زمن قريب، هي البقرة الحلوب التي تضخ ما تحتاجه الأحزاب الحاكمة من مال ورجال، ها هم حكام إيران ووكلاؤهم يتهمونها، اليوم، بالبعثية والأميركية والصهيونية والعمالة لدول الخليج، ليبرّروا تنكرهم لمطالبها المشروعة، ورفضهم التنازل عن بعض مكاسبهم ومناصبهم ورواتبهم، وإصلاح ما يمكن إصلاحه من قوانين وبرامج وقرارات. وهذا يعني أن جماهير المحافظات الجنوبية، حتى التي لم تنتفض، بعد، ولم تنزل إلى ساحات الاعتصام، لم تعد هي العمق الشعبي الحاضن للنظام وللاحتلال الإيراني الذي يملك زمامه، بل إنها هي التي تهدد الاحتلال، وتسعى لتحرير نفسها ووطنها من ظلمه وانتهازيته وابتزازه، وقد تكون عامل تثوير فاعل لجماهير الشعب الإيراني في قادم الأيام. وهذا أيضا هو انتصار آخر أكبر من كل انتصار.

 

ولا ننسى أن أغلب المجندين في الميليشيات هم من أبناء عشائر الجنوب الذين دفعتهم الحاجة والبطالة إلى القبول بالانضمام إليها. والجرائم التي يرتكبها بحق أبناء عشائرهم قادةُ ميليشياتهم الذين كشفوا عن حقيقة كونهم إرهابيين وعملاء، ستدفع بكثيرين منهم إلى الخروج منها، والتمرد عليها، لا محالة.

 

وليس مستبعدا أن تصبح هذه الانتصارات المتلاحقة المترابطة عوامل قوية لتعميق حالة الارتباك بين أصحاب السلطة، ولشق صفوفهم، وإثارة بعضهم على بعض.

 

ألَم يأتِكم حديث التهديدات المتعاقبة الحقيقية التي تعرّض، ويتعرّض لها رئيس الجمهورية من أحزاب إيران وميليشياتها؟

 

وبعد هذا وذاك، ألا يمكن أن تشعل هذا الانتصارات حماس الجماهير الوطنية الشريفة في المناطق الغربية والشمالية من الوطن، وهي المبتلاة بظلم أهل السلطة أكثر من غيرها، فتنتفض كما انتفضت بغداد والناصرية والعمارة والحلة والنجف وكربلاء والديوانية والبصرة، ويتحوّل الاحتجاج والاعتصام الحالي المحدود إلى حالة وطنية شاملة، لا يغلبها غلاب؟

 

الخلاصة أن العراقيين أعطوا الأحزابَ الشيعية والسنية والكردية المتحاصصة المتشاركة في الظلم والفساد جميعَ الفرص لتعديل نفسها، وتهذيب سلوكها، وإثبات أمانتها ووطنيتها، ثم تبيّن، بعد كل ذلك الصبر الجميل الطويل، أن استمرارها في الحكم مرهونٌ باعوجاجها، وبقدرتها على المراوغة والاحتيال.

 

ومع إصرار الثوار على البقاء في مواقعهم، وصمودهم، وعقلانيتهم، وصبرهم الجميل ورفضهم الثابت الشجاع لكل مراوغات أهل السلطة ومقترحاتهم الترقيعية الالتفافية، لم تعد استقالة هذا الرئيس أو ذاك الوزير أو إقالته، هي الحلَّ الذي يشفي غليل أحد. بل أصبح المطلوب شيئا واحدا لا غير، وهو رحيل النظام بقضه وقضيضه، وأيُّ حلٍ آخر غيره لن يعيد شهيدا إلى الحياة، ولن يرجع مخطوفا ولا سجينا إلى أهله بسلام، ولن يقنع ثائرا بالعودة إلى منزله خالي الوفاض. فالصمود الصمود، والصبر الصبر، والمسالمة المسالمة أيها الثوار، فأنتم الغالبون، وأعداء ثورتكم المهزومون والمدحورون، ولن يصح غير الصحيح.