وهنا تكمن الفرادة الشحرورية في فهم النص من أجل الإثراء بما يودي إلى التعايش نحو الخير والفضيلة.
 

لقد كفر "محمد شحرور" بالمنهجية التقليدية الممنهجة والمتبعة عند الحوزة الأصولية والتيارات السلفية المحدودة بشقيها : السنية ـ الشيعية، وبكل تفريعاتهما، لم يكن شحروراً تقليدياً وأصولياً وفقيهاً ومحدِّثاً بالمعنى الحوزوي الديني الإسلامي، إنه فكرٌ أكادميٌ جبَّارٌ عبقريٌ فذٌّ، قد لامس روح الإسلام، لم يكن جهادياً دموياً يفتي بوجوب أو جواز القتل واللعن والسب أو بالنجاسة والطهارة..! لم يقدِّس الفهم الأصولي المتبع عند الإكليروس الإسلامي، ولم يقدِّس الآليات التي وضعها العقل الأصولي، لأنها آلية للوصول إلى الصواب والخطأ، ولذلك خرج إلى فضاءات أوسع رحابةً وأرقى روحاً وفهماً للإسلام والقرآن، وبهذه الفهومات تتجاوز حصر الإسلام بطريقةٍ واحدة التي تكون أقرب إلى الخطأ من الصواب، لأنه من قرأ أكثر عرف أكثر، ومن لم يقرأ من الأديان إلاَّ دينه، لم يعرف أي دين، ومن حصر الحقيقة في عقله وجيبه، فإنه مُقصِّر لم يعرف العلم.

إقرأ ايضاً : رسالة من علي بن أبي طالب (ع) إلى شيعته..

 

 وهذا ما أشار إليه مولانا علي (ع) الذي أسَّس لأهم شرط للتفكير حتى نتجاوز كل ما مألوف وثابت، فهي نظرية "العقل" حيث قال: " كل شيءٍ يُستدل عليه بالعقل، والعقل حجة".. من استقبل وجوه الآراء عَرِفَ مواقع الخطأ، ومن عَرِفَ مواقع الخطأ، أمكنه أن ينفُذَ إلى الصواب ـ لا صواب مع ترك المشورة ـ من شارك الناس شاركها في عقولها ـ  إنَّ لله على حجتين: حجة ظاهرة، وحجة باطنة، فأما الظاهرة فالرسل والأنبياء والأئمة، وأما الباطنة فالعقول.."

 لقد كفرت المدرسة الشحرورية بمؤسسها المبدع الدكتور محمد شحرور بتلك العقلية التي قسمت ظهر الفكر المعتزلي وسيطر دين وعقل الفقهاء كما ينقل لنا التاريخ منذ زمن "المتوكل العباسي (232ه) قسمت العقل والحرية والفكر العقلاني، وسيطر النقل على العقل، وبذلك ضاعت علينا تلك المرحلة الذهبية الإعتزالية، وما زلنا نعيش مآسي ومأساة حتى سيطرت علينا مدارس غيبية، جبرية، قدرية، أخبارية،والمدرسة الأصولية التي حاولت إعمال العقل واعتباره مصدراً للتشريع، إلا أنَّ الواقع لا يساعدنا على ذلك، لأنه في حقيقة الأمر يعتبرون العقل كاشفاً عن الحكم النقلي، وليس دليلاً مستقلاً،بل حاولوا الخروج بذلك عندما أدرجوا العقل دليلاً مستقلاً فقط في "المستقلات العقلية" كالعدل والظلم، أنهما عقليان وليسا شرعيين، مع العلم أن هذا خارج تخصُصاً.. لأنَّ الكلام الذي يتبناه الدكتور شحرور والمدرسة التنويرية الشحرورية هو أنَّ الأصل من إعمال العقل مصدراً أساسياً في التشريع. رحم الله كل الكافرين بتقديس النقل والموروث، والكافر الدكتور محمد شحرور، يكفيه هذا الإسم " محمد" الذي حمد ربه بمنة العقل والفكر والإيمان به وبالإنسان والإنسانية، وأبدع فيما أنتجه من أفكارٍ تغني الأمة الإسلامية بإعادة القراءة الجدية للنص الديني، وهنا تكمن الفرادة الشحرورية في فهم النص من أجل الإثراء بما يودي إلى التعايش نحو الخير والفضيلة.. 

اللهم إنَّا نعلم أن الموت هو غاية كل حيٍّ، وأنَّ قدرك ومقادريك وقضاءك بين مخلوقاتك ليست غاية طائشة، ولا سهاماً عشوائية، وأنَّ زهرة الحياة لا يمكن أن تنبت إلاَّ في التربة التي لا تنبت إلاَّ أشواك الكفر والزندقة والنجاسة وأشواك القتل والموت، الدكتور شحرور يبقى طوداً شامخاً وفكراً نيراً في إعادة ما سلبه العقل الديني الذي سبَّب لنا لوثة في الرؤية، وابتلينا بعقول كثيرة ما أنزل الله بها من سلطان، وما زلنا نحمل أوزارها ووزرها ووزر علمائنا وفقهائنا، الذين لم يجعلوا للعقل ضابطة، حتى خسرنا نصنا الإسلامي، وخسرنا أنفسنا ومحيطنا، بل وخسرنا عالماً بأسره من حولنا..

 طبت حيَّاً وميتاً، أيها الراحل الكبير، الذي خدمت أمة الإسلام وآمنت وصدقت، فالرحمة لك.