الرئيس الأميركي يشغل العالم ويستمر العرض المثير طوال سنة مصيرية بالنسبة للمشهد السياسي الأميركي ولميزان العلاقات الدولية.
 

نجح الديمقراطيون في المرحلة الأولى من مسار محاولتهم عزل خصمهم اللدود الرئيس الأميركي دونالد ترامب، لكن عدم قدرتهم في التعويل على مجاراة مجلس الشيوخ لتوجههم، يمكن أن يرتد سلباً على الحزب الديمقراطي في استحقاقي الانتخابات الرئاسية والتشريعية القادمة. وهذه الانعكاسات الداخلية لا تتوقف على احتدام المنافسة من دون ضوابط بين الحزبين التاريخيين، بل على الصلة بين البيت الأبيض و”الدولة العميقة” وتأثير كل ذلك على صورة أميركا في العالم وعلى مسار ومصداقية سياساتها الخارجية.

 

اعتمد دونالد ترامب المثير للجدل في مسار صعوده السياسي على تلميع صورته وإمكاناته. وربما أراد دخول التاريخ بمثابة أول رئيس أميركي وزعيم غيرعادي من خارج المؤسسة وربط ذلك بنجاح اقتصادي تطبيقاً لشعاري “أميركا أولاً” و”إعادة عظمة أميركا”. وأراد رجل الأعمال الناجح ألا يكون فقط “عملاق العقارات” كما يصفونه أو “الديماغوجي والشعبوي” المتقن في الاستعراض من خلال الخطابة الموجهة للجميع ومن خلال وسائل التواصل الاجتماعي.

 

لكن، لم تكن تراوده فكرة عمل مناهضيه على دخوله تاريخ الولايات المتحدة أولاً من باب محاولة عزله، إذ بعد تصويت مجلس النواب على إدانته الاتهامية ومواجهة المحاكمة في الكونغرس، يكون دونالد ترامب الرئيس الأميركي الثالث (بعد أندرو جونسون في سنة 1968 وبيل كلينتون في 1998)، الذي تعرض لهذا الإجراء، علماً أن سلفه ريتشارد نيكسون المتهم بفضيحة ووترغيت تحاشى الأسوأ بتقديم استقالته عام 1974.

 

وبالرغم من كلام ترامب عن كراهية خصومه السياسيين وعدم تسليمهم به رئيساً منذ اللحظة الأولى، وبالرغم من اطمئنانه إلى ضمان تأييد الحزب الجمهوري له في مجلس الشيوخ لإحباط باقي المسار، إلا أن مصادفة التصويت قبل أقل من عام على الانتخابات الرئاسية القادمة، يعجل برمي كل الأوراق في معارك العام 2020.

 

إلى جانب الآثار الشخصية على كبار المعنيين بمسار محاولة العزل وأولهم رئيسة مجلس النواب نانسي بيلوسي، والوصمة التي ستطبع الرئاسة، ستتجه الأنظار نحو المعركة الانتخابية الكبرى حيث يأمل ترامب أن تكون فرصة للانتقام ورد الاعتبار. وفي معاينة لردة فعله الأولية عند تلقيه خبر التصويت، وفي اعتماد على شعبية لا تتضاءل وعلى نواة انتخابية صلبة، يراهن ترامب على تحول المسار إلى “انتحار سياسي للحزب الديمقراطي”.

 

ويلاحظ في هذا الصدد أن بيلوسي الآتية من الجناح اليميني في الحزب الديمقراطي والتي جهدت للاحتفاظ بموقعها، كانت تريد أن يقترن اسمها بالمصادقة على قانون الضمان الصحي في حقبة باراك أوباما وليس بالمسار المتعرج والمعقد لمحاولة العزل. لذا يبدو أن بيلوسي التي لا تضمن حسن التتمة في مجلس الشيوخ ستتريث قبل الإلحاح بالمحاكمة لأن الحزب الجمهوري متماسك وراء ترامب، ولا تريد أن تطول المسألة ويستخدمها الرئيس ببراعة في تقديم نفسه ضحية للملاحقة خلال الحملة الانتخابية.

 

ولهذا فإن شبح الخسارة الكبرى يمتثل أمام الحزب الديمقراطي في انتخابات الرئاسة ومجلس النواب نظراً لعدم القدرة حتى الآن على تقليص الفارق ولبقاء الانقسام المتساوي سيد الموقف مع ما يحمله ذلك من غموض حتى اللحظة الأخيرة مع ترجيح بسيط لصالح سيد البيت الأبيض الحالي. وفي حال إعادة انتخاب ترامب، ستكون الضربة موجعة للديمقراطيين كي يستردوا قواهم ويعيدوا ترتيب صفوفهم.

 

على صعيد “الدولة العميقة” و”الإيستابليشمانت” الأميركي، يظهر أن الاستثناء الذي بدأ منذ 2016 مع ظاهرة الرئيس المختلف، قد تعمق مع مسار محاولة العزل وتعمق عدم الثقة والشكوك المتبادلة ربطاً بقضيتي التدخل الروسي المفترض واتهام الضغط على أوكرانيا وعدة قضايا أخرى يمكن أن تمس بالأمن القومي الأميركي حسب البعض. لكن في حال نجاح ترامب باجتياز الحواجز وكسب السباق الرئاسي ثانية، ربما تصبح العلاقة أسلس مع الأجهزة الأمنية ووزارتي الدفاع والخارجية لأن العلاقة ملزمة لتسيير الدولة والدفاع عن مصالحها، ولأن عدم حاجة ترامب عندها للاهتمام بمصلحته الانتخابية الشخصية ستحسن من أدائه ومن القدرة على عمل المؤسسات إلى جانبه.

 

من نافل القول، إن انعكاسات محاولة العزل تطال صورة واشنطن ونهجها الخارجي في العالم. بالرغم من تباين الرؤى أو تناقضها إزاء القوة العظمى الوحيدة في العالم، كان لمنظومة القيم (الحرية، حقوق الإنسان، دولة القانون) دور في الترويج للنموذج الأميركي إلى جانب الازدهار الاقتصادي والتقدم العلمي. ومن هنا، فإن اهتزاز الالتزام بهذه المنظومة في الفترة الأخيرة يترك آثاره بالقياس للحلفاء وباقي الأطراف ويسهم بتراجع أكبر للغرب في ميدان العلاقات الدولية. لكن عدا هذا التأثير على الصورة والنموذج، سيتطلع كل العالم للمعركة الرئاسية القادمة ولو أن محاولة عزل ترامب لن تمر مرور الكرام وكانت مناسبة للرئيس الروسي فلاديمير بوتين كي يدافع عن “صديقه” في سابقة بين الجبارين الكبيرين السابقين.

 

تعليقاً على إجراءات عزل دونالد ترامب، اعتبر بوتين أنها تستند إلى أسس «مختلقة»، أساسها «نزاع سياسي داخلي» بين الديمقراطيين والجمهوريين. أما “الحجة التي يسوقها خصوم الرئيس الأميركي ضده في ما يتعلّق بالقضية الأوكرانية، فجاءت بعد فشلهم في توريطه في مزاعم تدخل موسكو في انتخابات 2016 الرئاسية”. ولم يتناس الرئيس الروسي المؤسسات الأميركية المتشددة حيال موسكو بسبب ما وصفه بـ«الخطوات غير الودّية» التي تتخذها تجاه روسيا، شاكيا على وجه الخصوص ما قال إنه رفض الرد على مقترحات موسكو لتمديد معاهدة «نيو ستارت»، التي في حال إلغائها «لن يكون هناك شيء في العالم يحدّ من سباق التسلح.

 

إن التركيز الروسي على أهمية العلاقة مع الرئيس دونالد ترامب يوازيه أيضاً العلاقة “الحميمة” و”الخاصة” للرئيس الأميركي مع إسرائيل ومجموعة ضغطها في الداخل. ومن دون شك، يبقى الرئيس الأميركي الحالي هو الأفضل بالنسبة للعديد من شركاء واشنطن في العالم العربي وأوروبا وآسيا لأنه أصبح معروفا لناحية اهتماماته في مجال كسب المصالح وانكشاف مواقفه، على خلاف الغموض الذي يحمله مرشح أو مرشحة الحزب الديمقراطي والتبديل الطفيف في السياسات الخارجية الأميركية عبر الرئاسات المتوالية.

 

هكذا يشغل دونالد ترامب العالم ويستمر العرض المثير طوال الأشهر القادمة، في سنة مصيرية بالنسبة للمشهد السياسي الأميركي ولميزان العلاقات الدولية.