لا يمكن للرباط أن تتعجل الرئيس الجديد بفلسفة في السياسة الخارجية لبلاده دون تبيان قدرات الرجل على خوض معركة داخلية تلبي طموحات الشارع، طالما أنه بات الواجهة الأولى للنظام السياسي برمّته.
 

سيكون تمرينا دقيقا ومثيرا للاهتمام مراقبة أداء رئيس الجمهورية الجزائرية الجديد عبدالمجيد تبون. فاز الرجل في انتخابات أثارت كثيرا من الجدل حول وجاهتها وحقيقة تمثيلها للجزائر التي خرجت إلى الشوارع منذ 22 فبراير الماضي. ولئن يدلي الرئيس الجديد بالتصريحات الواعدة في سعي لطمأنة الحراك الشعبي الكبير وتهدئة انفعالاته، فإن تغيير رأس السلطة في البلاد منذ استقالة عبدالعزيز بوتفليقة وتغييب الدائرة المحيطة به، تهميشا أو اعتقالا، يطرح أسئلة حول قدرة تبون على مواجهة “دولة عميقة” لطالما جعلت من العداء للمغرب طوال العقود الأخيرة من ثوابت السياسة الخارجية للبلاد.

 

وقد تكون للجزائر أسبابها الوجيهة، الموضوعية وتلك المرتبطة بحسابات داخلية، في الغضب من المغرب، والعزوف عن ولوج أيّ سُبل من شأنها استكشاف وجوه الحل مع الدولة الجارة. وقد يكون للمغرب أسبابه أيضا التي أوصلت الأمور إلى الحد الذي وصلت إليه في علاقات البلدين. لكن يُسجّل للعاهل المغربي، الملك محمد السادس، أنه تقدم بخطوات أكّدها وكرّرها في مناسبات عديدة، يطلب فيها من الجزائر قلب الصفحة والعودة إلى الحوار، وصولا إلى تطبيع كامل في علاقات البلدين. بالمقابل لم نعرف أن مبادرة خرجت من أيّ مسؤول جزائري في هذا الصدد. وحده الرئيس الراحل محمد بوضياف دعا إلى ضرورة فتح الحوار بين البلدين.

 

يتحدث الرئيس تبون عن جزائر جديدة. وجد العاهل المغربي في ذلك مناسبة فأعاد في برقية التهنئة البروتوكولية الدعوة “لفتح صفحة جديدة في العلاقات بين البلدين الجارين على أساس الثقة المتبادلة والحوار البناء”. بالمقابل سُجّل لتبون موقفان. واحد حين كان مرشحا، فطالب المغرب بتقديم اعتذار للجزائر عن الاتهامات التي وجهتها الرباط لبلاده بالتورط في انفجار فندق أطلس أسني في مراكش عام 1994. وواحد حين انتخب رئيسا للبلاد، فاعتبر أن ظروفا أدت إلى إغلاق حدود الجزائر مع المغرب، وأن “زوال العلة يكون بزوال أسبابها”.

 

لم يكن مطلوبا من الرئيس الجزائري الجديد الكشف عن انقلاب جذري في موقف بلاده حيال المغرب. بيد أن ما شهدته البلاد من “ثورة” حقيقية أدت إلى إزالة نظام بوتفليقة واعتقال شقيقه وعدد من واجهات ذلك النظام السياسية والأمنية والعسكرية والمالية، أثار لدى المغرب شهية التعويل على تحوّل في السياسة الجزائرية يخلّصها من الخطاب الخشبي الذي لازم مقاربة الجزائر للعلاقة مع المغرب.

 

وفيما كان نظام بوتفليقة يدفع بحجج كثيرة لعدم العودة إلى فتح الحدود البرية بين البلدين، فإن المغاربة ما برحوا يعتبرون أن لبّ المعضلة وجوهرها لا يتعلق إلا بالصحراء المغربية. الرباط تعتبرها جزءا من أراضي المغرب بصفتها الصحراء المغربية التي أجمع الموالون والمعارضون على مغاربيتها، فيما تدعم الجزائر جبهة البوليساريو تحت مسوغ الدفاع عن “حق الشعوب في تقرير المصير”. وربّ قائل إن “الصحراء” مشكلة مفتعلة، ولو لم تكن لكانت الجزائر أوجدت “صحراءها”.

 

بيْدَ أن تطوّرا لافتا حصل في هذا الشأن قبل شهرين، ومن داخل الطبقة السياسية الجزائرية، أثار جدلا كثيرا، وأسال حبرا غزيرا، حين أعلن عمار سعداني، وهو الأمين السابق لحزب جبهة التحرير الوطني، موقفا لافتا مفاده أن “الصحراء مغربية” وأن “الجزائر دفعت ثمنا غاليا بدعمها للبوليساريو”، وأنه “يجب فتح الحدود المغلقة بين البلدين”.

 

والرجل ليس معارضا بل هو جزء من الطاقم الأساسي الحاكم في البلاد، ويوصف بأنه مقرّب من قائد أركان الجيش الجزائري أحمد قايد صالح. كان أمينا عاما لأهم أحزاب الجزائر، وهو وإن تحدث عن الموضوع في باريس، فإنه “لا ينطق عن الهوى”، وأن الكلام الحالي عن احتمال عودته لتبوّؤ مركز مهمّ في بلاده، يزيد من الأسئلة حول طبيعة موقفه “الصحراوي”، وعما إذا كان أمر ذلك رسالة من النظام نفسه لدى العواصم الكبرى، لا سيما باريس، من قابلية النظام للمرونة والتحوّل في ملفات الداخل، كما في ملف عصيّ كملف العلاقة مع المغرب.

 

تبرّع سعداني حينها في إعطاء دروس في التاريخ مؤكدا أنه يعتبر “من الناحية التاريخية، أن الصحراء مغربية وليست شيئا آخر، واقتطعت من المغرب في مؤتمر برلين”. وأضاف “في رأيي أن الجزائر تدفع أموالاً كثيرة للمنظمة التي تُسمى البوليساريو منذ أكثر من 50 سنة”. ويخلص إلى أن بلاده “دفعت ثمنًا غاليًا جدًا دون أن تقوم المنظمة بشيء أو تخرج من عنق الزجاجة”.

 

نُشرت المقابلة مع سعداني في الـ17 من أكتوبر الماضي. كان ذلك طبعا قبل انتخابات الـ12 من ديسمبر الرئاسية. حينها لوّح للخارج قبل الداخل أن “العلاقة بين الجزائر والمغرب، هي أكبر من هذا الموضوع (دعم البوليساريو)”، معتبرا أن الجزائر وتونس وليبيا في طور التغيير، بما يمكن، وفق ذلك، إنعاش المغرب العربي.

 

عبدالمجيد تبون وعمار سعداني وجهان من وجوه نفس النظام في الجزائر، وبالتالي فإن ثنائية “العلّة والسبب” التي أثارها الرئيس لا تخفي جدلا داخليا (عبّر عنه سعداني) جرى داخل أروقة السلطة في الجزائر منذ الدعوة التي أطلقها العاهل المغربي في نوفمبر 2018 للحوار بين البلدين. ولئن سيخرج من يعتبر أن فتوى سعداني هي رأي شخصي لا يُلزم الدولة، إلا أن الاعتراف بمغربية الصحراء، الذي لا سابق له داخل الصف الحاكم في الجزائر، يُسقط محرّماً بات بإمكان الرئيس تبون البناء عليه.

 

تتبرأ الجزائر من أيّ تدخل في شؤون المغرب، معتبرة أن أمر الخلاف بين الرباط والبوليساريو هو شأن ثنائي لا علاقة لها به. تدلل على أمر ذلك بأنها وموريتانيا أعضاء مراقبون في أيّ محادثات مرتبطة بنزاع الصحراء، فيما قرارات مجلس الأمن، لاسيما ذلك الرقم 2494 في أكتوبر الماضي الذي يعتبر الجزائر منخرطة في هذا النزاع وسُبل حله. على أن السبيل إلى تجاوز الخلاف يتطلب تغيير خرائط اللغة القديمة المعتمدة في مقاربة الأمر.

 

لا يمكن للمغرب أن يتوقع تغييرا انقلابيا للموقف الرسمي للجزائر المعتمد منذ عام 1975. ولا يمكن للرباط أن تتعجل الرئيس الجديد بفلسفة في السياسة الخارجية لبلاده دون تبيان قدرات الرجل على خوض معركة داخلية تلبّي طموحات الشارع، طالما أنه بات الواجهة الأولى للنظام السياسي برمته، بسياسييه وعسكرييه وأجهزته.

 

والأرجح أن الجزائر الجديدة التي يبشّر بها الرئيس عبدالمجيد تبون تتطلب منه أداء مختلفا، على الأقل في الشكل، على نحو يقنع هذا الداخل كما العواصم المعنية بشؤون الجزائر والتحولات داخلها، وخصوصا المغرب، بأن البلاد تتموضع تدريجيا على وقع ذلك الزلزال الشعبي المفاجئ الذي داهم كل الطبقة السياسية، وأطاح برئيس كان يمنّي النفس بعهدة خامسة على رأس البلاد.

 

في خطابه الخميس يقول تبون إن "مسألة الصحراء المغربية هي مسألة تصفية استعمار، وهي قضية بيد الأمم المتحدة والاتحاد الإفريقي، ويجب أن تبقى بعيدة عن تعكير صفو العلاقات مع الأشقاء في المنطقة المغاربية". الموقف حمّال أوجه في أطرافه احتمالات التشدد كما احتمالات المرونة. بيد أن السؤال الكبير: أوليس التحول في علاقة الجزائر بالمغرب أقوى رسائل التغيير للداخل قبل هذا الخارج؟