... وبين أُعجوبةِ التكليف ومُعْجزةِ التأليف، وكلِّ الغرائب والعجائب التي تفترسُ حياتنا، لم نعُـدْ نعرف: نحـنُ شعب لبنان العظيم في أيِّ دولةٍ نعيش، وفي أيّ جمهورية، وفي ظـلِّ أيّ حكمٍ ونظام... كلُّ ما نعرف أنـنا في دولةٍ هي أشبهُ بمسرحية «نهر الجنون» للروائي الكبير توفيق الحكيم، نشرب من النهر ولا نرتوي.

 

كأنّما كنَّـا سُكارى يوم قرأنا في الدستور أننا نـنعمُ بنظامٍ ديمقراطي، واستفَـقْنا فإذا نحن نرزح تحت منظومةٍ يختلط فيها الديمقراطي بالدكتاتوري بالتيوقراطي بالملكي وسائر خصائص الحق الإلهي.

 

النظام بالمعنى العام هو أحدُ مفاهيم العقل، والعقل عندنا ذهَبَ ولم يعُـدْ، والنظام بالمعنى الفلسفي هو مجموع القيم الأخلاقية، والأخلاق عندهم ذهبَتْ... ولم يذهبوا. كلُّ نظام سياسي، ديكتاتورياً كان أو ديمقراطياً محكومٌ بممارسة السلوك، قد تصبح الديكتاتورية أقلَّ سوءاً من الديمقراطية إذا كان الذين يمارسونها يتفوَّقون بمناقبيةٍ أخلاقية على مَـنْ يمارسون الديمقراطيات. والديمقراطية اللاَّ أخلاقية «إذا تحولت الى عبـدَةِ أصنام»، كما يقول برناردشو قد تصبح بالممارسة نظاماً ديكتاتورياً.

 

كان لا بـدّ من هذه النظريات الخاطفة، لعلنا نتوصّل الى اكتشاف نظام الحكم الذي يمارسه عندنا المسؤولون، بل لعلنا نجرؤ على البَوْح: هـلْ هـمْ يحكمون بنظام القوّة أو بقوة النظام...؟

 

في العام 1993 نشر المفكّر الفرنسي جان ماري جيهينو كتابه الشهير «نهاية الديمقراطية» على اعتبار أنَّ الديمقراطية الحديثة أصبحت أسيرة المال والإعلام، لا المبادىء التي تجسِّدُ حقوق الإنسان في العدالة والحرية والمساواة.

 

لعلّنا نطرح في موازاة نهاية الديمقراطية الحديثة، تلك الديمقراطية القديمة التي أعلنتها الفلسفة اليونانية منذ القرن الثالث قبل المسيح، والتي تقول بالديمقراطية المباشرة، وهو مبدأ سياسي يقوم على اجتماع المواطنين في ساحات المدينة ومناقشة القضايا المتعلقة بشؤون الشعب ومصير البلاد.

 

والديمقراطية المباشرة هذه، مارستها سويسرا في الزمن الحديث حين اعتمدت الساحات العامة بما يشبه المجالس النيابية التي يتواجه فيها الشعب مع المسؤولين عن رعاية شؤونه.

 

أخلُصُ الى الإستنتاج: حين تتعطل الديمقراطية وتصبح على أيدي الحكام عاهـةَ حكمٍ لا آلـةَ حكم، وعندما تُـنْتَهك حقوق الشعب في السرايات، لا بـدَّ من اللجوء الى مصدر السلطات في الساحات التي يعبّـر فيها الشعب عن سيادته وإرادته الحـرَّة في شأن الحكمِ والحكومة وسائر قضايا المصير.

 

أعذرونا... بسقوط «رومـا» من فوق، تسقط السلطة الى تحت... وكَفانا: أن يكون لبنان جنَّـةً يجري من تحتها نهـرُ الجنون.