رشّح العماد ميشال عون نفسه إلى رئاسة الجمهورية على أساس أنه سيكون جسر تواصل بين 8 و14 آذار وانتخبته القوى الأساسية في الفريقين، ولكنه في النصف الثاني من الولاية وضع نفسه في مواجهة 14 آذار وانتفاضة 17 تشرين الأول.
 

يتعامل الرئيس عون مع الأزمة الوطنية، وكأنها فصل من فصول الأزمات السياسية المفتوحة، ومن دون أن يأخذ في الاعتبار العامل المالي والاقتصادي الذي يستدعي وحده مقاربة غير مألوفة، ولا العامل الشعبي الذي لم تتراجع اندفاعته منذ أكثر من شهرين، ولن تتراجع ما دامت الأزمة المالية مرشحة للتفاقم.

 

فالمسألة ليست في القدرة على تشكيل حكومة من عدمها، لأنّ المطلوب ليس تأليف مطلق أي حكومة، إنما حكومة تجسِّد التوافق السياسي أولاً، وترضي الناس ثانياً، وتحظى بثقة المجتمعين الدولي والعربي ثالثاً، وما لم تتوافر هذه العوامل الثلاثة فإنّ الانهيار سيتواصل، لأنّ حكومة اللون الواحد لا تستطيع مواجهة الأزمة المالية غير المسبوقة.

 

فوظيفة حكومات اللون الواحد هي المواجهة، ولكن السؤال الأساس هو من ستواجه الحكومة الجديدة ما دام جوهر الأزمة هو من طبيعة مالية واقتصادية ومعيشية ومطلبية وشعبية وليس سياسية، فيما السؤال المطروح يكمن في كيفية مواجهة الأزمة وليس من ستواجه الحكومة، والفارق بين السؤالين كبير جداً، لأنّ المطلوب اليوم مواجهة الوضع المالي وليس مواجهة فريق سياسي معين، ومواصفات الحكومة المولجة مواجهة الأزمة الاقتصادية تختلف عن مواصفات الحكومة المؤلفة من فريق سياسي واحد.

 

فحكومة الرئيس المكلف حسان دياب لن تتمكن من إخراج الناس من الشارع، بل يرجّح ان تتضاعف أعدادهم في الشارع بسبب الإمعان في تحدي إرادتهم بتشكيل حكومة مرفوضة منهم، لأنّ الحكومة ستكون تكنو-سياسية، والتكنوقراطيون فيها ستختارهم القوى السياسية المشاركة في الحكومة، ما يعني انّ الإدارة السياسية للحكومة هي نفسها، لأنّ المشكلة ليست في وزير سياسي أو تكنوقراطي، بل في الفريق السياسي الذي يديره وأوصَل البلد إلى الهاوية والإفلاس.

 

ولن تتمكن حكومة دياب من مواجهة الأزمة المالية لثلاثة أسباب أساسية:

 

السبب الأول، كون المدخل للاستقرار النقدي هو عامل الثقة، وهذا العامل مفقود لدى الرأي العام اللبناني الذي لا تختلف برأيه هذه الحكومة عن الحكومات السابقة، وذلك على قاعدة انّ من أوصَل البلد للإفلاس لن يكون باستطاعته قيادة لبنان إلى شاطئ الأمان.

 

السبب الثاني، لأنّ أي حكومة لا تحظى بغطاء داخلي سياسي وشعبي لن تتمكن من التفرُّغ لمواجهة أزمة غير مسبوقة في لبنان، فكيف بالحري إذا لم تمنح أي فرصة، فيما الحكم عليها سيكون قبل انطلاقتها ربطاً بطبيعتها وطريقة تأليفها.

 

السبب الثالث، لأنّ المجتمع الدولي الذي انتقل من معادلته السابقة الحفاظ على استقرار لبنان إلى المعادلة الجديدة بأنه لن يساعد لبنان ما لم يساعد نفسه، لن يقدِّم المساعدة المالية الفورية التي تحتاج اليها الدولة للحدّ من الانهيار، كما لن يؤازر لبنان سوى على أساس خطة إصلاحية واضحة المعالم، وهذه الخطة في حال أنجزَت، وهي لن تنجز بالمعايير الدولية المطلوبة، لن يستفيد منها اللبنانيون قبل عام وأكثر، ما يعني بعد ان يكون قد تحوّل لبنان إلى دولة منكوبة.

 

وفي موازاة العامل الدولي المتشدد في الإصلاح، فإنّ عواصم القرار الغربية والعربية تريد حكومة خالية من القوى السياسية وتعكس رغبة الشارع اللبناني على هذا المستوى. وبالتالي، المشكلة الأساسية التي ستواجهها حكومة دياب مع المجتمع الدولي ليس فقط كونها حكومة سياسية مغلفة بتكنوقراط، إنما لأنها مشكّلة من لون سياسي واحد وترتكز على «حزب الله» الذي يتعرّض لعقوبات شديدة، وعلى العهد الذي يضعه هذا المجتمع في خانة الحزب بشكل كامل.

 

فعدم منح «القوات اللبنانية» وتيار «المستقبل» و»الحزب التقدمي الإشتراكي» الثقة لدياب سيجعل الحكومة حكومة «حزب الله» تلقائياً، على رغم انّ «الحزب» حاول تفادي الوصول إلى حكومة من هذا النوع، ووضع كل جهده لإقناع الرئيس سعد الحريري بترؤس حكومة تكنو-سياسية او تسمية من ينوب عنه، وكشف السيّد حسن نصرالله في إطلالته الأخيرة انه واجَه داخل فريقه، والمقصود العهد، وجهة النظر القائلة بتشكيل حكومة اللون الواحد، وقد عَدّد كل الأسباب التي تجعله يمتنع عن تبنّيها، ولكن مع رفض الحريري التكليف والتسمية، وأمام إصرار العهد على تشكيل حكومة تَحدٍ بمعزل عن الثمن، عاد وسلّم بوجهة نظر العهد.

 

وهذا الخطأ الثالث الاستراتيجي لـ«حزب الله»: الخطأ الأول، كان عدم استشرافه الانهيار الذي كان الوصول إليه حتمياً سوى في حالة واحدة وهي تغيير إدارة الحياة السياسية والمالية. والخطأ الثاني، عدم دفعه نحو حكومة اختصاصيين مستقلين تؤدي إلى تبريد نقمة الشارع ومعالجة الوضع الاقتصادي بدلاً من انهيار يرتدّ عليه وعلى جميع اللبنانيين ويدفع نحو الفوضى. والخطأ الثالث، في توجيهه إشارة ورسالة إلى المجتمع الدولي، ولو بشكل غير مباشر، بأنه قرر الانتقال إلى المواجهة مع الداخل والخارج، الأمر الذي يحرم لبنان أي مساعدات مالية، ويضع الحزب في مواجهة مكشوفة مع المجتمع الدولي.

 

وأحد أسباب رفض الحزب حكومة اللون الواحد الحفاظ على الاستقرار السياسي بشقّيه: السني-الشيعي، خصوصاً مع تكليف رئيس حكومة لا يحظى بثقة الشارع السني وغالبية النواب السنّة ورؤساء الحكومات والمرجعية الروحية، والانقسام الوطني مع تأليف حكومة تضم فريق 8 آذار، وبالتالي حكومة اللون الواحد ستعيد التشنّج على الخطين المذهبي والوطني مع عامل إضافي هو الشارع الذي تصدّر الواجهة السياسية منذ 17 تشرين الأول، ما يعني تسريع وتيرة الانهيار، لأنّ الحكومة ستكون مرفوضة من الداخل والخارج.

 

ولا شك في أنّ الثنائي العهد و«الحزب» سيحاول قدر الإمكان تجميل الحكومة ونفي صورتها الاحادية، ولكنه لن يستطيع ذلك في ظل القوة التي تقف خلف تشكيلها ورفض الثلاثي «القوات» و«المستقبل» و«الإشتراكي» منحها الثقة، ما يعني أنها ستكون حكومة صوَرية من أجل أن يُثبت العهد فقط أنه قادر على التشكيل، ولكنها ستؤدي إلى مزيد من التوتير والتعقيد والفشل السريع.

 

وفي موازاة الأخطاء التي وقع فيها «حزب الله»، فإنه لم يكن من مصلحة العهد أيضاً أن يذهب في المواجهة إلى حدها الأقصى، ولاسيما في ظل الانهيار المالي الذي وقع في عهده ويتطلّب إجراءات استثنائية لمواجهته وليس تشكيل حكومة مواجهة، كما انه لم يكن من مصلحة العهد ان يعود إلى حضن «الحزب» على غرار ما كان عليه قبل وصوله إلى رئاسة الجمهورية، الأمر الذي يضعه في مواجهة المجتمعين الدولي والعربي، فضلاً عن المواجهة المفتوحة مع الناس الثائرة في الشارع، والقوى السيادية والبيئات المسيحية والسنية والدرزية، والمواجهة الأبرز تبقى مع الوضع المالي الذي لن يتمكن العهد في ظل إصراره على السياسة نفسها من فَرملة الإفلاس، ويكفي ان يخسر في هذه المواجهة لتنقلب الطاولة رأساً على عقب.

 

ومع هذا التطور الذي سيسرِّع وتيرة الانهيار سيتحوّل العهد إلى المستهدف الأول في المرحلة المقبلة.