تحوّل الحركة الوطنية الفلسطينية إلى سلطة عبّر عن أفولها أو موتها، لاسيّما أن ذلك التحول لم ينشأ عن دحر الاحتلال من الضفة وغزة، وإنما تم بالتفاوض معه، وأن السلطة الفلسطينية نشأت تحت سلطة الاحتلال.
 

بعد أيام ستدخل الحركة الوطنية الفلسطينية عامها الخامس والخمسين، وهو عمر طويل بالنسبة للحركات السياسية، سواء كانت حركات تحرر وطني، أو كانت حركات مناهضة للسلطة. مع ذلك فإن الجدل المطلوب إثارته هنا لا يقتصر على طول الحركة الوطنية الفلسطينية فقط، وإنما يشمل أيضا الأثمان الباهظة التي دفعها الشعب الفلسطيني طوال تلك المسيرة الصعبة، وفي مختلف متعرّجاتها، هذا أولا.

ثانيا، فإن الأمر يتعلق بعجز تلك الحركة عن تحقيق الإنجازات المفترضة، أو تلك التي وضعتها على عاتقها، إن على مستوى تحرير فلسطين، أو على مستوى تحرير جزء من فلسطين، كما على مستوى المفاوضة لإقامة دولة في الضفة والقطاع.

ثالثا، ما زالت القيادة التي أطلقت تلك الحركة في ذات الموقع، في مختلف المراحل، أي رغم كل التحولات والتراجعات والإخفاقات الحاصلة.

رابعا، الحركة الوطنية الفلسطينية التي كانت انطلقت بداية من أجل تحرير فلسطين، نكصت عن ذلك الهدف، إلا أنها ما زالت مستمرة وكأن شيئا لم يكن، إلى درجة أن قيادة تلك الحركة، لم تقم بأية مراجعة نقدية جدية، لمسيرتها الطويلة والمضنية والباهظة، لا بشأن ما حصل في الأردن ولا في شأن ما حصل في لبنان، ولا بشأن ما حصل في الضفة أو غزة. أيضا، لم تحصل أية مراجعة للتجربة المسلحة، ولا لتجربة الانتفاضة الأولى والثانية، ولا لتجربة بناء المنظمة أو تجربة بناء السلطة.

في غضون كل تلك التجربة المضنية، تبيّن عجز الحركة الفلسطينية عن إحداث أي تغيير في معادلات الصراع بينها وبين إسرائيل، بل إن تلك التجربة بيّنت إخفاق مختلف الخيارات النضالية والسياسية، التي انتهجتها تلك الحركة.

أهم ملاحظة يفترض إدراكها في ذلك النقاش، وهو ما يجري حجبه في ظل صخب المزايدات الفلسطينية، يمكن تمثلها بأن معظم الإنجازات التاريخية التي حققتها الحركة الوطنية الفلسطينية، منذ انطلاقها، كانت تحققت بين 1965 و1975، وهو ما تمثل باستنهاض الشعب الفلسطيني من مأساة النكبة، وإعادة لملمة شتاته، ووضع قضيته على رأس جدول الأعمال العربية والدولية، وإنشاء منظمة التحرير باعتبارها الكيان المعنوي الموحد لذلك الشعب وقائد كفاحه، ونيل الاعتراف الدولي والعربي بالمنظمة كممثل شرعي وحيد لشعب فلسطين، في كافة أماكن تواجده. بيد أن ما يفترض الانتباه إليه أن كل تلك الإنجازات التي صنعت شعب فلسطين وهويته وعززت صموده كانت تحققت قبل 45 عاما، أي أن الحركة الوطنية الفلسطينية كانت وصلت منذ زمن طويل إلى سقف لم يعد بوسعها تجاوزه، باستثناء لحظة الانتفاضة الشعبية الأولى (1987 – 1993)، التي شكلت علامة فارقة في كفاح الفلسطينيين، كونها كانت وليدة حراكات شعبية عفوية، وكونها نشأت في الداخل، وكونها أتت من خارج البنى الفصائلية الموجودة.

لم يقف الأمر في الحركة الوطنية الفلسطينية عند حدود نكوصها عن هدفها الذي انطلقت على أساسه، وهو هدف كان يمكن البناء عليه، في معادلات سياسية أخرى، مثل النضال من أجل دولة واحدة ديمقراطية في فلسطين، أو بتعزيز البعد الحقوقي المتعلق بالحرية والمساواة والعدالة والمواطنة في ما يتعلق بفكرة التحرير، وإنما بنكوصها عن التعاطي مع الشعب الفلسطيني كشعب واحد، في مختلف أماكن تواجده، وإزاحة الرواية المؤسسة القائمة على حدث النكبة وقضية اللاجئين عام 1948، إلى الرواية المتعلقة بالاحتلال الذي بدأ عام 1967، بحيث تم تقويض التطابق بين أرض فلسطين وشعب فلسطين وقضية فلسطين، واختصرت جغرافية فلسطين بالضفة وغزة والقدس، واختزل شعب فلسطين بالفلسطينيين في أراضي 1967، واقتصرت الحقوق الوطنية على حقوق جزء من شعب فلسطين.

فضلا عن هذا، فإن تحول الحركة الوطنية الفلسطينية إلى سلطة عبّر عن أفولها، لاسيّما أن ذلك التحول لم ينشأ عن دحر الاحتلال من الضفة وغزة، وإنما تم بالتفاوض معه، وأن السلطة الفلسطينية نشأت تحت سلطة الاحتلال، وأن الفلسطينيين في الضفة وغزة، كانوا أكثر وحدة في مقاومتهم إسرائيل عنهم بعد إقامة السلطة.

هذا الكلام ليس نعيا للذات وندبا للواقع، وإنما هو دعوة للتأمل والتفكر، للتعامل مع واقعنا بجدية ومسؤولية باتت مفقودة منذ زمن في الحركة الوطنية الفلسطينية، التي باتت مجرد سلطة في الضفة وغزة.