لبنان، أمام «شاقوفين»؛ الأوّل، حراك مطلبيّ مستمرّ منذ 60 يوماً، وحراكات أخرى نبتت حوله، مجهولة الأب والأم والمحرّك والموجّه والمدير، لكلّ منها وظيفته وأجندته، ولا يجمع بينها سوى النزول إلى الشارع، والثّاني، سلطة مصالح متحكمة بالدولة، أو بالأحرى سلطات متصارعة في ما بينها، وما بينهما حقيقة ساطعة مفادها: «طار البلد»، وبمعنى أدقّ «طيّروا البلد»!
 

عاد البلد ممّا يسمّى «المربّع الصفر» إلى مربعات ما دون الصفر، منزلقاً، أكثر إلى قعر هاوية، في السياسة والاقتصاد والأمن. لقد بات من السذاجة اعتبار ما يجري «ثورة» أو «انتفاضة» أو حتى «حراكاً». المواجهات العنفية، صارت «فولكلوراً» مسائيّاً، وتتدحرج، يوماً بعد آخر، ككرة نار تكبر، لن يكون من الممكن استيعابها بالغاز المسيّل للدموع، لتنذر بانفجار كبير.

 

المواجهات المفتعلة، صارت أشبه بلعبة النار التي يهواها الصبية، في أروقة السياسة أو في الشارع، والمحرّكون باتوا مكشوفين، ونجحوا في نقل البلد إلى مرحلة جديدة، تتجاوز أيّ مطلب اقتصادي - اجتماعي محقّ، ما يعني انّ السياسة غلبت المطالب وأسقطتها بالضّربة القاضية، ويتأكد ذلك من أنّ كل الأصوات الإصلاحية، حتى وإن كانت مجرّد أمنية أو كلام، لم يعد لها بعد الأسبوع الأول للأزمة أيّ تأثيرات على إيقاع الأحداث.

 

يتبدّى ذلك جلياً من ألاعيب الشارع، المتدرّجة في خطورتها في تبديل التكتيكات على نحو تصاعدي خطير، من قطع الطرقات، بكلّ ما تحمله عبارة «قطع طريق» من أبعاد استراتيجية، إلى افتعال الفتن المتنقلة تارة باستحضار «قادة المحاور» إلى «ساحات الثورة» استباقاً لاستشارات نيابية يُفترض أن تكون محكومة بأصول السياسة لا بغوغائية الشارع؛ وتارةً أخرى بافتعال الاستفزازات بأشكال متعددة، سواء أكانت «خيمة» مروّجة للتطبيع مع العدو الإسرائيلي أم «فيديو» يتضمّن إساءات تجاوزت شتم الرموز السياسية إلى سبّ الرموز الدينية، لاستثارة شارع تتلاشى يوماً بعد آخر قدرته على ضبط النفس.

 

هكذا تحوّل البلد إلى «حارة بيسكّرها ولد»، تدرّجت فيه الصورة من الحلم في تحقيق إصلاحات الى الخوف من كوابيس ليلية بمشهديات مرعبة صوّرها جسر «الرينغ» والخندق الغميق والصيفي، وقبلهما الشياح وعين الرمانة، وأخرى أكثر رعباً، مع دخول الاقتصاد اللبناني في مرحلة الانهيار، بحسب ما يمكن قراءته في تقرير وكالة «فيتش» الأخير للتصنيف الائتماني، وبدء الترويج لخطط إفقار وفق وصفات «البنك الدولي» و«صندوق النقد الدولي» التي توصف بالكارثية.

 

ثمّة خطأ كبير ارتكب، ولكن، لا يقتصر الخطأ على مراهقي الشارع المولعين بغريزة إشعال النيران، والسباب الغوغائي واستثارة الغرائز الطائفية والمذهبية، حتى في صفوف أولئك الذين قدّموا ما يجري بطوباوية «العبور فوق الطوائف والمناطق»، أو بالحدّ الأدنى من خلال إقفال الباب على أيّ حلول واقعية، واعتماد مقاربة المطالبة بالمستحيل، بل يمتدّ إلى من يفترض أنّهم، بناءً على تجربتهم في الحكم، صاروا خبراء في اللعبة السياسية، ومع ذلك يذهب بعضهم الى المطالبة بالمستحيل في بلد قدّر له التاريخ والجغرافيا، حتى قبل ولادته منذ مئة عام، أن يكون محكوماً بتوازنات حساسة.

 

ينطبق هذا المفهوم على سعد الحريري نفسه، الذي يتهمه خصومه، التقليديون والمستجدّون من بين أصدقائه وحلفائه القدامى وشركائه في التسوية وغيرها، بأخذ البلد في مغامرة خطيرة، على قاعدة «أنا أو لا أحد»، أو «أنا ومن بعدي الطوفان».

 

الحريري يرتكز اليوم، على قوّة دفع وحيدة، أفرزها خيار حركة «أمل» و«حزب الله» المتمسكَين به لتجنيب لبنان المخاطر المحدقة، ولكنّها قوّة سرعان ما انكشفت عشية الاستشارات المؤجلة، حين سقطت عنه ورقة التوت الميثاقية، بعد بيان النعي الذي تلاه جبران باسيل للتسوية الرئاسية، ومن ثمّ تخلّي أقرب حلفائه - «القوات اللبنانية» عنه في اللحظة الأخيرة والحاسمة.

 

الموقف القواتي الأخير تجاه الحريري، وعلاوة على رمزيته الداخلية، تكمن أهميته الفعلية، على ما يقال، في انكشاف القوة الحريرية الواهمة خارجياً، لكونها امتداداً لتخلي الحلفاء القدامى والجدد عن رئيس الحكومة المستقيل، إن في الولايات المتحدة والسعودية، حيث تبرز المؤشرات على أنّه لم يعد خياراً مفضّلاً، أو في روسيا التي صارت منفتحة على خيارات جديدة، بدليل تحوّل الموقف الرسمي من «داعم» لتكليف الحريري إلى مجرّد مشجّع على تشكيل حكومة جديدة، أيّاً يكن رئيسها، ولعلّ تأجيل أو إلغاء الزيارة التي كانت مقررة له إلى موسكو قبل أيام، يحمل الكثير من الدلالات.

 

حتى اجتماع مجموعة الدعم للبنان لم يكن كافياً لتثبيت الصورة التي سعى إليها الحريري، أي رئيس حكومة تنفيذ مشاريع «سيدر». تكفي قراءة ما بين السطور للبيان الختامي الصادر عن الاجتماع الباريسي لمعرفة أنّ أجندة «سيدر» نفسها باتت متأخرة جداً أمام مشاريع «الإصلاح» وفق برنامج تفرضه المؤسسات المالية - صندوق النقد والبنك الدولي - سيكون مبنياً، من دون أدنى شك، على وصفات جاهزة عانت من تداعياتها الكثير من دول العالم، إن لجهة زيادة الضرائب على الطبقات الفقيرة، أو لجهة خصخصة ما تبقى من مؤسسات دولة متهالكة.

 

بعد الذي جرى بالأمس، ثمّة من نعى الحريري سياسياً، وذهب الى حدّ القول إنّه أُسقط بالضربة القاضية على حلبة الاستشارات، فهل هذا صحيح؟

 

قد يصح القول إنّ الحريري أخطأ في تقدير الموقف حينما قدّم استقالته ولم يستجب للنصائح التي أسديت إليه، وأنّه يشعر بندم على هذه الخطوة المتسرعة، التي «لم ترد رسمالها» ولا أقنعت الحراك.

 

وقد يصحّ القول أيضاً إنّ «التيّار الوطنيّ الحرّ» ومن خلفه رئيس الجمهورية قد سجّل ربحاً معنوياً موصوفاً على الحريري، وأضعفه في حلبة الاستشارات وقطع عليه طريق تحقيق رغبته في حكومة يصفها «التيّار» وحلفاؤه وأصدقاؤه، وحتى بعض خصومه، بالتفردية تحت عنوان حكومة اختصاصيين لا سياسية. ما يعني أنّ كلّ الربح السياسي الذي شعر الحريري بأنّه قد جمعه منذ بدء الحراك وصولاً إلى تفريغ نادي المرشحين لرئاسة الحكومة، إلّا من اسمه، قد ذاب وانتهى.

 

وقد يصحّ أيضاً القول إنّ الحريري أخطأ في قراءة موقف «القوات اللبنانية»، معتقداً أنّها ستماشيه، بل كان عليه أن يدرك انّ استقالتها من الحكومة لم تكن استقالة في وجه «التيّار الوطنيّ»، بل في وجهه في الدرجة الاولى. وموقفها من عدم تسميته ليس منعزلاً ابدأ عن قرارها السابق بالاستقالة، التي اعتبرت كنزع للثقة عن حكومة الحريري. وبالتالي كان عليه أن يفهم الرسالة، لا أن يراهن حتى فجر الاثنين على تسمية سلسة من قبل «القوات» له..

 

وقد يصحّ أيضاً القول إنّ الحريري لم يحسن قراءة الموقف الخارجي العربي والدولي، وخصوصاً موقف الدول التي تعتبر صديقة للحريري، مثل الولايات المتحدة الأميركية، وكذلك السعودية التي لم يبدر منها، على مدى عمر حكومته المستقيلة، ما قد يُشعر الحريري بأنّه محصّن بغطاء على ما كان عليه الحال سابقاً.

 

ومن الخطأ الذهاب إلى تبنّي فرضية أنّ الحريري انتهى سياسياً، ربما هذا ما يريده ويتمنّاه خصومه ومزاحموه على رئاسة الحكومة، ولكن هذا لا يعني أنّه لم يصب بكدمات سياسية موجعة، لكن رئيس الحكومة المستقيل، وتبعاً للتطورات التي نشأت على الخطّ الحكومي، بات أمام خيارين:

 

الأول، أن يدخل إلى الحكومة وفق الاستشارات المحدّدة وبالأكثرية النيابية الهزيلة التي ستسمّيه.

 

الثاني، أن يعزف عن ترؤّس الحكومة ويخرج من هذه المعركة، ويتيح المجال أمام غيره. سواء أكان من فريقه أم من خارجه.

 

الأكيد أنّ كلا الخيارين، مكلف سياسياً ومعنوياً على الحريري، فالخيار الأول معناه قبوله بتشكيل حكومة من موقع الضعف أمام رئيس الجمهورية وفريقه وحلفائه، ولكنّه في موقع رئاسة الحكومة قد يتمكن من التعويض وإعادة تحصين الذات، وأمّا الخيار الثاني، فإن لجأ إليه تحت عنوان الخروج لإعادة لملمة وضعه وترتيب بيته السياسي على أسس جديدة، فهذا الأمر سيتطلب وقتاً ربما يكون طويلاً جدّاً .. ولا يلعب لمصلحته، وربما تنشأ ظروف تبعد الجنّة الحكومية عن متناوله مسافات بعيدة. فأيّ من الخيارين سيختار الحريري، بل هل يستطيع أن يختار أيًّا منهما؟ .. الجواب لن يكون أبعد من الغد.