الأكراد قلقون من أن انهيار منظومة الأحزاب الشيعية أمام انتفاضة هدفها التغيير السياسي سيضع مكاسبهم على كف عفريت.
 
تقف خلف واجهة أزمة نظام الحكم في العراق جهود فكرية وسياسية تبذلها جهات شيعية وكردية في محاولة لإحياء التحالف الاستراتيجي الكردي الشيعي الذي انهار فعليا بعد الاستفتاء الكردي على الاستقلال في عام 2017.
 
ويقود هذا الجهد الأكراد أنفسهم في محاولة لمسك القيادات الشيعية من المنطقة التي توجعهم وهي مصيرهم المظلم بعد الثورة الشبابية التي انطلقت في الأول من أكتوبر.
 
هذا الجهد يأتي لأسباب داخلية تتعلق بتداعيات مصير القيادات الشيعية بعد انفضاض جمهورها والالتحاق بالثورة وأسباب إقليمية أبرزها ضغوط طهران بضرورة إحياء التحالف مع القيادات الكردية ذات التاريخ الطويل من التحالف مع إيران في ما بعد الشاه .
 
إن الذي حصل أخيراً هو استطلاع وجهات نظر شيعية من الخط الثاني من بين رجال فقه وأكاديميين شيعة تمت دعوتهم إلى أربيل أخيراً لمؤتمر فكري سياسي سمي “النجف – أربيل” حيث اتفق المشاركون فيه على ضرورة قيام هدنة كردية- شيعية لمواجهة مخاطر انهيار النظام السياسي في بغداد.
 
لكن الكثير من بين المثقفين والسياسيين ورجال الدين من الذين حضروا المؤتمر فاجأوا الأكراد عن غير عمد من خلال نقدهم الشديد للموقف الكردي من الانتفاضة ونظرة القيادات الكردية المصلحية المنغلقة وعدم تجاوبها مع تطلعات عموم العراقيين.
 
إن مؤتمر أربيل قام على أساس تعميق المنهج التقسيمي للعراق سواء من حيث أوراق العمل وبعض المداخلات أو التوصيات حيث تم تكريس الطائفية الشيعية والقومية الكردية في تجاهل للهوية الوطنية العراقية التي رفعها المنتفضون .
 
إن القلق الكردي يأتي من أن انهيار منظومة الأحزاب “الشيعية” أمام استراتيجية الانتفاضة الهادفة إلى تغيير سياسي شامل سيلحق الضرر الاستراتيجي الكبير بالقيادات الكردية ويضع مكاسبها على كف عفريت.
 
ولم يتردد رئيس الاتحاد الكردستاني، مسعود البارزاني، من إبداء مخاوفه من المستقبل الذي ستحققه الانتفاضة فأعلن منذ الأيام الأولى لها عن تخوفه من نجاحها في تحقيق مطالبها وفي مقدمتها تعديل الدستور وإقالة الحكومة والذهاب إلى تعديل قانون الانتخاب وتشكيل مفوضية عليا للانتخابات مستقلة بشكل حقيقي.
 
ويتخوف البارزاني من قوة بغداد في حال انتصار إرادة المنتفضين وسط دعم شعبي واسع مما قد يقوض كل ما حققه سابقا من إنجازات تمثلت في شراكة مع القيادات الشيعية التي أوصلت إلى مشروع الاستقلال عن العراق أو الاستقلال في القرار وعدم تحمل المسؤولية في الأخطار.
 
وفي محاولة للهروب إلى الأمام طالب البارزاني بتحويل كركوك إلى إقليم ومن ثم يتوحد إقليمياً مع كردستان ليرتبطا مع بغداد بشراكة كنفيدرالية، بمعنى أن البارزاني يسعى للحصول على ما فشل في تحقيقه في استفتاء الانفصال عبر فرضه على شركائه السياسيين الشيعة المٌهددّين بالإطاحة بهم اليوم في خضم ما ولدته الانتفاضة من تهديدات لكل الطبقة السياسية.
 
صدرت مواقف كردية عديدة في ما بعد ومن بينها تصريح عضو المكتب السياسي للديمقراطي الكردستاني، هوشيار زيباري، الذي تخوّف من أن تعيد ثورة الشباب بعد انتصارها حكم الدكتاتورية الذي ثار عليه الشيعة والأكراد حسب وصفه في تفسير وُصف بأنه تكريس للتحالف الكردي الشيعي وإبعاد للهوية العراقية التي يناضل من أجلها الجمهور العراقي الثائر.
 
 
إن المحور المقلق لدى الأكراد هو المخاوف من التعديلات الدستورية التي لم يقل بها المنتفضون والتي قد تطيح بإقليم كردستان حسب وصفهم. الأكاديمية الكردية، سولاف كاكائي كشفت بأن التعديلات الدستورية من الممكن أن تُلغي الشكل الفيدرالي لإقليم كردستان “وكتعبير طائفي عنصري أعادت بالذاكرة إلى أن المكون الشيعي والكردي يجمعهما تاريخ مشترك فالنظام البعثي السابق كان يقمع المكونين على وجه الخصوص”.
 
وهذه النظرة الضيقة تتحكم بالعقل السياسي للقيادات الشيعية والكردية وذلك في تجاهل واضح للعراقية أجمع عليه المراقبون المحليون والدوليون لدرجة إن صحيفة نيويورك تايمز الأميركية نشرت بتاريخ 6 نوفمبر 2019 تحليلا وصف الانتفاضة العراقية بأنها “مزقت أسطورة الطائفية كمبدأ منظم للسلطة السياسية”، واعتبر أن المشكلة تكمن في النظام السياسي الذي فرضته الولايات المتحدة ضد العراق عام 2003، والذي أسس الكذبة التي مفادها أن العراقيين لم تكن لديهم هوية وطنية موحدة وأن هويتهم الغالبة كانت طائفية أو عرقية (الشيعة والسنة والأكراد) مما عزل المسيحيين والإيزيديين والمندائيين وغيرهم من الأقليات في العراق.
 
يصل الحال في تجاهل وجود العراق تاريخياً من قبل بعض السياسيين الأكراد المتطرفين إلى اعتباره بلداً مصطنعاً وهذا ما قاله عبدالسلام برواري العضو السابق في البرلمان الكردي خلال مداخلته في مؤتمر “النجف – أربيل” قبل يومين مدعياً بأن العراق لن يبقى موحداً سوى بالدكتاتورية أو الفيدرالية.
 
ويصف كثيرون من الناشطين في الانتفاضة سبب الغموض في مواقف رئيس الجمهورية، برهم صالح، حول تسمية رئيس الوزراء الجديد وفق صلاحياته الدستورية، وبما يلبي رغبات الشارع العراقي بسبب خضوعه للعبة التي تديرها إيران إضافة إلى عدم تحمسه “ككردي” لانتصار إرادة الثوار .
 
تاريخياً كان الأميركان دائماً وما زالوا يحتفظون بالأكراد أداة لتنفيذ مصالحهم في العراق والمنطقة وفق حاجات الفرص السياسية، ويرمونهم جانباً إذا تعارضت الأحداث مع تلك المصالح، لكن القيادات الكردية تحاول التغطية على ذلك الموقف الأميركي من رفض دعوتهم للاستقلال بعد استفتاء 25 سبتمبر عام 2017 دليل على ذلك .
 
إن القيادة الكردية تقع اليوم بخطأ تاريخي في تجاهلها لانتفاضة أكتوبر 2019 وتكشف عن الحقيقة التي لا يرغب العراقيون فيها وهي إن هذه القيادة لا تنظر إلى العراق إلا كونه بقرة حلوباً، وهي لا تتطلع إلى المستقبل العراقي وفق ما تدعيه في شعاراتها الديمقراطية، وهو كما يريده ثوار الانتفاضة يجب أن يكون بلداَ ديمقراطياً تتعزز فيه الهوية الوطنية للعراق الواحد وبكونه عراقا للجميع بلا طائفية ولا قومية عنصرية .