يؤكّد المراقبون أنّه لو كان الهدف من قيام ثورة 17 تشرين اسقاط حكومة سعد الحريري لكانت توقفت الانتفاضة فور استقالته، ولو ارتضت عودة الحريري دون سواه لما كانت الأصوات الشعبية وليس الميثاقية تجرّأت برفض إعادة تسميته، بل حتى أنّ بعضها تجرّأ على تخطي الخطوط الحمر، من خلال المناداة بإسقاط العهد بالكامل، أي بإسقاط الرئيسين عون وبري أيضاً، باعتبار انّ إسقاط الحكم يقوم على إسقاط اركانه الثلاثة، الرئاسة الاولى والثانية والثالثة...وهذا ما قد يفسّر قساوة التحرّك الأمني المستجد في البلد، تحت عنوان مكافحة الشغب الذي جاء معاكساً فتحوّل الى مكافحة الشعب.
 

إذا ما قارنا بين مشهدية أفواج عرض الإستقلال المدني في ساحتي النجمة ورياض الصلح ليلة الإستقلال وبين «ليلة القبض على راجح» امس الأول في الساحتين المذكورتين، يلحظ المراقبون انخفات الأصوات الشعبية والمطلبية المنادية بثورة الرغيف، التي لطالما ندّدت بارتفاع سعر الدولار ودانت تعمّد المصارف سرقة ودائع اللبنانيين وغيرها من المطالب الشعبوية التي تقضّ مضاجع اللبنانيين.. كل ذلك لأنّ الأزمة السياسية نجحت كالعادة في ركوب موجة الإنتفاضة، فجرّتها سياسياً الى حدٍ ما وحرفت نظرها عن الأزمة الحقيقية المعيشية التي تهدّدها بالعمق.

وعوض أن تلاحق القوى الأمنية والعسكرية المسؤولين عن ارتفاع الأسعار بشكل تصاعدي في المتاجر بفعل غياب الرقابة ومحاسبتهم، تلاحق تلك القوى المواطن الثائر المذبوح من الاثنين معاً، السلطة والتاجر.

هذا في المشهدية الميدانية، أمّا سياسياً، فقد برزت نغمة الميثاقية في الاستشارات وفي التأليف، بدأها الوزير جبران باسيل، الذي أعلن انّه لن يشارك وكتلته في الحكومة المقبلة، معتبراً بذلك أنّها ستفتقد الميثاقية في غياب التمثيل المسيحي القوي المتمثل بـ«التيار» وحزب «القوات اللبنانية»، الذي أعلن مسبقاً قراره بعدم المشاركة في الحكومة المقبلة.

هذا الموقف قابلته أوساط «حزب الله» بالإستياء، ملمّحة الى تناسي باسيل التغطية المسيحية المؤمّنة حكماً من قِبل العهد، وتحديداً من رئيس الجمهورية. فيما اعتبرت أوساط مقرّبة من «الحزب» موقف باسيل المستجد، الداعي الى حكومة تكنوقراط بالكامل وانتقاله الى صفوف المعارضة، يتناقض مع تموضعه الطبيعي الموالي لمواقف العهد والرئيس، وتحديداً التسوية... إلاّ أنّ الإجابة السريعة عن هذا الموقف غير المعلن لـ«حزب الله» أتت عبر بيان من قصر بعبدا أبلغ من خلاله الرئيس كل من يعنيهم الأمر قراره بالإحجام عن المشاركة أيضاً في الحكومة المفترضة المقبلة.

المستجد!

الا أنّ المشهد بوصول موفد الحريري الوزير السابق غطاس خوري الى معراب السبت الفائت لاستمزاج رأي «الحكيم»، لم يوحِ أنّ الحريري أذعن الى نصائح باسيل بالإنسحاب التام، بل بالعكس أوحت زيارة خوري معراب بعد انقطاع، بأنّ الحريري يعدّ العدة ويرسم خطوطها من باب معراب ومن بوابة الانتفاضة للعودة الى ترؤس حكومته التي سيؤلّفها بنفسه من اختصاصيين فقط، في وقت أيقن رئيس كتلة التيار الأزرق مجدّداً حاجته الى مظلّة مسيحية قوية بعد انسحاب باسيل، الذي عاود اعتماد لغة التحدّي وربما المناورة، لإفهام الحريري انّه.. «دوننا لا حول لك ولا قوة، فكيف اذا اضفنا عامل الميثاقية؟».

الأزمة ميثاقية أم مالية؟

المستجدات السياسية المتسارعة تلك، أدّت الى خلط الاوراق السياسية من جديد وجعلت «التيار الوطني» يتلاقى مع خصمه السياسي اللدود أي «القوات اللبنانية»، ليفترق عن حليفه في التسوية، المفترض انّه ثابت، أي الحريري. كما باعدت تلك المستجدات بين التيار البرتقالي وبين حليفه الإستراتيجي أي «حزب الله»... فأعاد بذلك تموضع باسيل الجديد اللعبة السياسية الى المربّع الاول. ومن هناك يُطرح سؤال مشروع: «هل بدأت حرب الإلغاء على الحريري؟».

في الوقائع، يبدو أنّ مشهد المظلة السنّية التي وفّرت الغطاء لعودة الحريري من بوابة دار الافتاء وعراضة رؤساء الحكومات السابقين، بالإضافة الى غطاء العائلات البيروتية، إصطدمت أمس بغياب «بوانتاج» الميثاقية المسيحية في الإستشارات النيابية أيضاً، كذلك بالنسبة الى النواب «المودعين» التسمية في تصرّف رئيس البلاد... الأمر الذي يمهّد ربما، وفق المتابعين، لمشهد إصطفاف طائفي قاسٍ، تخوف هؤلاء من تداعياته على لبنان بشكل عام وعلى أهداف الإنتفاضة بشكل خاص.

وربما الإجابة السريعة تظهّرت بالتصعيد من قِبل الحريري الذي قرّر اللعب بدوره في حلبة الميثاقية، ولاسيما بعد قراءته «بيان الفجر القواتي» الذي صرف النظر عن مبايعته لرئاسة الحكومة، بالرغم من التلميح المباشر، بعد زيارة الموفد خوري، بعدم تمنّع «القوات» من تسمية الحريري لحكومة التكنوقراط الصرف التي يصرّ عليها الطرفان... إذ قال جعجع بالحرف: «اذا كان هناك لا للحريري فمعناها لا لعون ولا لبري».

إلّا انّ تبدّل الخطاب القواتي عبر بيان «عند شق الفجر» بحسب اوساط تيار «المستقبل» جعل الحريري يتريث ليعيد حساباته، في وقت قرأ البعض في بيان «القوات» مؤشراً الى عاملين:

1- التقاط «القوات» ربما إشارات عربية وغربية سحبت الغطاء عن تكليف سعد الحريري.

2- مراجعة قواتية لحساباتها السياسية. اذ ليس من الحكمة مقابلة «القوات» إعلان انتقال باسيل الى المعارضة بعودة جعجع الى حضن الحريري، وبالتالي الى مربّع الموالاة ولو بصورة جزئية...

هذه المستجدات دعت الحريري الى الإستنفار والطلب من الرئاسة الاولى تأجيل الاستشارات بحجة غياب الميثاقية المسيحية في تسميته مع تمنّع التيار العوني والقوات والكتائب... فيما وضع البعض مسارعة المردة الى إعلانها تسمية الحريري في خانة بيع الاوراق السياسية ليس الّا...بعد أن تأكّد تيار المردة من عدول الداخل والخارج عن تسمية الحريري ...وبذلك لا ضرر من بيعه مجرّد ورقة سياسية لا تُصرف إلّا معنوياً... لكن بحسب أصدقاء الحريري، فقد علمت «الجمهورية» بأنّهم سوف ينصحونه بالمعاملة بالمثل وبالإنسحاب من «الفخ» الذي يُحضّر له والذي علم به مسبقاً، وسوف يوعزون اليه في الإستشارات المقبلة، لو حصلت، بالردّ بالمثل أي عدم التسمية... بالرغم من اعتبار الخطوة في «البيان الأزرق» القاسي، غير دستورية ....

«القوات»: الأهم إنقاذ البلد

«القوات» بدورها سارعت الى نفي موافقتها الحاسمة على تسمية الحريري بعد زيارة موفده، وحرصت على تأكيد حلفها الاٍستراتيجي الثابت مع «المستقبل». فيما كشفت مصادرها عن تريثها في إعلان موقفها الحاسم بسبب التباين الذي برز في وجهات النظر، خلال إجتماع كتلة «الجمهورية القوية»، في وقت ذكّرت انها كانت السبّاقة للمطالبة بحكومة إختصاصيين بالكامل.

ووجّهت مصادر «القوات» السؤال الأهم الى الحريري وباسيل معاً: «هل المشكلة اليوم ميثاقية ام اقتصادية ومالية؟ وهل من المقبول أن تعزفا سوياً على وتر الميثاقية؟». وأضافت: «ليس من الذكاء طرح الميثاقية أمام كل مفترق لإنقاذ مقاعدنا، لأنّ الأهم اليوم هو إنقاذ البلد».