أولاً: تسوية العام ١٩٤٣.
 
 لو وضعنا جانباً فترة الانتداب الفرنسي على لبنان منذ إعلان دولة لبنان الكبير عام ١٩٢٠، والتي امتدت حتى استقلاله عام ١٩٤٣، لتبيّن لنا أنّ هذا البلد الذي اجترحت كيانه وحدوده اتفاقية سايكس-بيكو عام ١٩١٦، ظلّ محكوماً بالتسويات وما يرافقها من مناورات واختلالات واضطرابات، أدّت في أكثر من مرة إلى حروبٍ أهليةمُتنقّلةوثابتة، وكانت أول هذه التسويات وأهمها هي تسوية عام ١٩٤٣ غداة الإستقلال الوطني، والتي انبثق عنها ما بات معروفاً بالميثاق الوطني الذي أسّس لقيام الجمهورية اللبنانية الاولى، وهذا الميثاق لم يكن أكثر من تفاهم "شفهي" بين بشارة الخوري ورياض الصلح، قبل أن يخرج إلى النور في البيان الوزاري لحكومة الصلح أمام مجلس النواب في السابع من تشرين الأول عام ١٩٤٣، وهو كما يؤكد السياسي المخضرم الكاتب فواز طرابلسي، لم يُفصح سوى عن فصامٍ أساسي، إذ يُؤكد المساواة السياسية والقانونية والمدنية لجميع اللبنانيين بما هم مواطنون، بقدر ما يُؤسّس للامساواتهم السياسية والقانونية والمدنية بما هم رعايا (أهلون حسب النص الدستوري)، ينتمون إلى جماعات دينية مُتراتبة تتوازع حصصاً متفاوتة من السلطة السياسية والوظيفة العامة، ومن ثمّ سعى الميثاق الوطني لتكملة وتصحيح الدستور في قضايا أساسية تتعلق بهوية البلد وعلاقاته العربية والدولية،  ومشاركة المسلمين في بنية النظام السياسي، وظلّت فذلكة الميثاق الوطني، بما هي أعراف، قائمة على حمل ضمانات سياسية للمسيحيّين في مقابل وعود سياسية واجتماعية وثقافية للمسلمين، وبذلك تكرّس مع تسوية العام ١٩٤٣ النزاع بين الدستور وبين العرف المتجسّد في الميثاق.
 
ثانياً: تسوية العام ١٩٥٨...
مع نهاية عهد الرئيس كميل شمعون وما رافقها من اضطرابات في علاقات لبنان العربية والدولية، مترافقة مع سعي الرئيس شمعون لتجديد ولايته، انطلقت الانتفاضة الشعبية التي طالت معظم الأراضي اللبنانية، ولم تُفلح ضغوط الرئيس شمعون على قائد الجيش اللواء فؤاد شهاب لاحتلال معاقل الثوار و"تنظيف بيروت"، ونزلت وحدات المارينز الأمريكية في شاطئ خلدة جنوب مدينة بيروت، ولحقتها في الأيام الأربعة التالية تعزيزات عسكرية ضمّت أكثر من خمسة عشر ألف جندي، مدعومة ببارجة حربية تابعة للاسطول السادس الأميركي، ليتّضح لشمعون أنّ الأسطول السادس جاء إلى بيروت لفرض خليفة له، لا لمناصرته ضد خصومه، وهكذا اجتمع البرلمان اللبناني في ٣١ تموز عام ١٩٥٨، وانتخب الجنرال شهاب رئيساً للجمهورية، وكان واضحاً أنّ التسوية كانت بتفاهم مصري مع الإدارة الأمريكية، إلاّ أنّ الحكومة الأولى التي ألفها الرئيس كرامي من ثمانية وزراء، اعتُبرت منحازة للمعارضة، فدعا حزب الكتائب إلى إضرابٍ عام بعد اختطاف فؤاد حداد، رئيس تحرير صحيفة العمل الكتائبية، واندلعت أعمال عنف عُرفت بالثورة المضادة، وتميّزت بالصدامات الطائفية المسلحة والخطف على الهوية، لتولد على إثر ذلك حكومة رباعية متوازنة من الرئيس كرامي وحسين العويني عن المسلمين، وبيار الجميل وبيار إده عن المسيحيين، وانعقدت التسوية-المصالحة تحت شعار "لا غالب ولا مغلوب".
 
ثالثا: تسوية اتفاق الطائف...
وقّع النواب اللبنانيون في ٢٢ تشرين الأول عام ١٩٨٩ اتفاق الطائف في المملكة العربية السعودية، وفتح الاتفاق مساراً واضحاً لإنهاء الحرب الأهلية اللبنانية، ووضع البلد على طريق السلم وإعادة الإعمار، وتصوّرت "وثيقة الوفاق الوطني" التي خرج بها مؤتمر الطائف حلاًّ للأزمة اللبنانية على مرحلتين، الجمهورية الثانية التي أسّست لها الوثيقة، ما هي إلاّ مرحلة انتقالية إلى جمهورية ثالثة تُلغى فيها الطائفية السياسية، وجرى تعديل المادة ٩٥ من الدستور من أجل إلزام أول مجلس نيابي مُنتخب بإنشاء هيئة خاصة لهذا الغرض، ولكن دون تحديد مهلة زمنية لعملها، إلاّ أنّه وبعد حوالي ثلاثين عاماً على توقيع وثيقة الوفاق الوطني، لم ترَ النور حتى الساعة.
لم يتقدم لبنان كما أمِل المنتدون في الطائف عام ١٩٨٩، بالعكس، أدّى تدبير الترويكا"الطائفية" إلى علاقات قوى مأزومة على الدوام، بحاجة إلى وسيطٍ رادع (غازي كنعان ورستم غزالي السوريين)، أو مؤتمر دوحة طارئ، وعملياً أدى اتفاق الطائف إلى إعادة النظام الطائفي في أبشع صُوره، وأنتج نظام محاصصة مقيت شرّع البلد أمام عمليات نهبٍ منظّمة للمال العام، وآليات فسادٍ متوحشة غير مسبوقة، مهّدت للانتفاضة الشعبية في السابع عشر من تشرين الأول الفائت.
 
رابعاً: الانتفاضة الشعبية..نهاية عهد التسويات...
مرّت حتى الآن ثلاثون سنة على اتفاق الطائف، الذي أعطى للّبنانيّين دستوراً جديداً ووعداً دائماً بالخروج من شرنقة الطوائف إلى مفهوم المواطن بدلاً عن "الطائفي" والفئوي والعنصري، بعكس ذلك تحكّمت بمصير اللبنانيين سلطة مُتواطئة على الفساد والاستبداد ونهب المال العام والاستئثار بالسلطة وحجز تداولها، ممّا أدى إلى استنزاف طاقات البلد المالية والاقتصادية، وإدخاله في منظومة المحاصصات الطائفية والغنائم، وكل ذلك بشجع واستهتارٍ وتفريطٍ بالمسؤولية لا سابق له، وهذا ما دفع هذه الجماهير المنتفضة للخروج إلى الشارع طامحةً للتغيير، وتكنيس مقاعد السلطة ممّن أرهقوا هذا الشعب بالضرائب، مع حرمانه من أبسط حقوقه في الخدمات العامة، من طبابة وتعليم ونور ومياه وبيئة نظيفة، ومن ثمّ إجراء انتخابات نيابية مبكرة لتوليد طبقة سياسية قادرة على تأسيس سلطة لا طائفية تُنهي مأساة هذا البلد، الذي لا يخرج من محنة طائفية حتى يُرمى في أتونها مرّةً أخرى.
ما زال العقد معزوماً على هذه الانتفاضة بأبنائها الذين لم يتعبوا، ولم يستكينوا، ولن يوهنوا حتى تتكلّل تضحياتهم بالفوز والنجاح، ويبوأ الفاسدون الطائفيّون بالخسران والهوان.