الموقف الأوروبي والاصطفاف الروسي إلى جانب المشير خليفة حفتر لن يجعلا من اليسير لأردوغان التعويض عن خسائره بواسطة القوة الحاكمة في طرابلس التي تخوض صراعا كانت مذكرتا التفاهم مع أنقرة لاستجلاب دعم تركي لها مقابل تكريس أمر واقع جديد حول المتوسط.
 

تستمر تركيا في الرقص على الحبل المشدود بين واشنطن وموسكو في دغدغة لطموحاتها الاستراتيجية في إقليم ملتهب ومتحرك. لكن عدم تمكن الرئيس رجب طيب أردوغان من إنجاح رهاناته في شرق الفرات بعد إطلاقه عملية “نبع السلام” داخل الأراضي السورية، حدا به للاندفاع نحو ليبيا عبر توقيع مذكرتي تفاهم مع فايز السراج، علّ هذا التمدد الاستراتيجي في شرق المتوسط يضمن له موقعا أساسيا في مجالي النفوذ والطاقة.

 

لا شك أن هذه الحسابات المكيافيلية المستندة إلى محاكاة أمجاد تاريخية تخضع بدورها لجملة عوامل مؤثرة أبرزها تعدد اللاعبين الدوليين والإقليميين المعنيين بهذا الحوض الحيوي وثرواته وبعده الجيوسياسي.

 

ازدادت في السنوات الأخيرة الأهمية الاستراتيجية لشرق المتوسط بسبب الاكتشافات الكبيرة للغاز في حوضه خلال العقد الماضي، ولاحتدام “اللعبة الكبرى” على ضفافه وفي جواره انطلاقا من سوريا في العام 2011. وخلال التاريخ المعاصر كانت لموارد الطاقة وممراتها الأثر الكبير في رسم خرائط النفوذ وأحيانا في تعديل حدود الدول وتحديدها.

 

ومن اللافت أن نهاية الحرب الباردة المتسمة بالانهيار السوفييتي تزامنت مع عملية عاصفة الصحراء (1990) ضد العراق، التي كرست حينها الأحادية الأميركية.

 

في المقابل، تأكدت العودة الروسية إلى المسرح العالمي عبر الوصول إلى “المياه الدافئة” في شرق المتوسط عبر البوابة السورية وسعى “القيصر الجديد” فلاديمير بوتين لاكتساب نفوذ عالمي من خلال ثالوث السلطة الجيوسياسية والقوة الفظة وثروة الغاز والنفط.

 

وكان من اللافت أيضا أن هذا الظهور الروسي على المسرح المتوسطي تزامن مع بدء إسرائيل في 31 مارس 2011 ضخ الغاز الطبيعي المستخرج من حقل “تامار” في جرف البحر الأبيض المتوسط. وكانت المعطيات الجيولوجية المؤكدة في 2010، تشير إلى أن الحوض الشرقي للمتوسط (اليونان، قبرص، مصر، فلسطين- غزة، إسرائيل، سوريا ولبنان) يحوي كميات هائلة من الغاز ومن المواد النفطية المشتقة، مما يجعله من أكبر المواقع الغنية بالطاقة على أبواب القارة الأوروبية التي تعاني من تبعية في استهلاكها للغاز الروسي في المقام الأول.

 

ومع توالي الاكتشافات وخاصة على شواطئ مصر، ونتيجة لوجود قدرات كبيرة للتكرير في هذا البلد، تمكنت القاهرة في يوليو 2019 من إطلاق “منتدى غاز شرق المتوسط” الذي يضم إلى جانب مصر كلا من قبرص واليونان والأردن وإسرائيل وفلسطين وإيطاليا. وأتى ذلك بعد ترسيم الحدود البحرية بين مصر واليونان وقبرص واستئناف التعاون المصري- الإسرائيلي في قطاع الطاقة، ولوحظ حضور وزير الطاقة الأميركي وممثلين عن الاتحاد الأوروبي وغياب روسيا عن الاجتماع التحضيري لهذا التجمع الإقليمي المهم. وكل هذه التطورات دفعت تركيا إلى تحريك المسألة القبرصية حيث تتواجد قواتها في القسم التركي من الجزيرة منذ 1974، وسرعان ما بدأت أنقرة تحتج على عمل التجمع الجديد (منتدى غاز شرق المتوسط) وآليات تعاونه، و”تطالب” بحقوقها وحقوق “شمال قبرص” في حقول الطاقة بشرق المتوسط.

زيادة على انخراط الكثير من اللاعبين وتزاحم المصالح، تكتمل “المعمعة” في صراعات النفوذ والطاقة في شرق المتوسط مع إشكالات قانونية وعدم ترسيم الحدود البحرية ( خاصة بين لبنان وإسرائيل، كما بين سوريا ولبنان، وبين تركيا واليونان وقبرص، كما بين ليبيا واليونان).

 

ويطرح ذلك عدة تحديات للأمن الإقليمي وأمن الطاقة في أكثر من مكان. ومن الجلي أنه يمكننا الآن مقارنة اهتمام الولايات المتحدة الأميركية بالنفط وطرقه في الشرق الأوسط والخليج، بأنه يوازي اليوم اهتمام روسيا بمستقبل إنتاج وتصدير الغاز من شرق المتوسط والخليج لما لذلك من أثر مباشر على الصدارة الروسية في إنتاج وسوق الغاز، والصلة الروسية مع أوروبا في هذا الخصوص. وتجدر الإشارة بهذا الخصوص أن العقوبات الأميركية الأخيرة بحق الشركات والكيانات المعنية بمد الغاز الروسي نحو ألمانيا وتركيا تندرج ضمن لعبة النفوذ المستقبلية والتجاذبات المفتوحة بين كبار الأقطاب.

 

في هذا السياق، لا تملك تركيا بعض أوراق القوة خاصة لافتقارها إلى الطاقة واعتمادها كثيرا على الجارين الروسي والإيراني، مع تمنين نفسها بتعويضات عبر لعب دور المصب الرئيسي لخطوط البترول والغاز تبعا لموقعها الجغرافي على البحار، وهذا يفسر غضب تركيا من الدور الفاعل لمصر كلاعب رئيسي في صناعة الغاز الطبيعي بمنطقة حوض البحر المتوسط.

 

ولذلك يأتي دخولها بقوة على الخطين “القبرصي التركي” والليبي كردة فعل على ما يشبه الإخفاق في سوريا أو في مواجهة “منتدى غاز شرق المتوسط”. ويراهن أردوغان على ممارسة الفيتو على التنقيب ومنع مرور أنابيب الغاز من خلال تواجده قبالة قبرص أو عبر مذكرة التفاهم مع حكومة السراج في طرابلس.

 

والاتفاق التركي مع “حكومة الوفاق” يطرح الكثير من الإشكالات داخل ليبيا ومع الجيران ومع الاتحاد الأوروبي (اليونان وقبرص من الأعضاء فيه) ولناحية التطابق مع القانون الدولي. ومن الواضح أن الموقف الأوروبي والاصطفاف الروسي إلى جانب المشير خليفة حفتر لن يجعلا من اليسير بالنسبة لأردوغان التعويض عن خسائره بواسطة القوة الحاكمة في طرابلس التي تخوض صراعا وجوديا ربما كانت مذكرتا التفاهم مع أنقرة لاستجلاب دعم خارجي تركي لها مقابل تكريس أمر واقع جديد حول المتوسط.

 

هكذا من سوريا إلى ليبيا مرورا بالمسألة الكردية وفتح ملف الإبادة الأرمنية في الغرب والرقصة غير المضمونة بين حلف الناتو وروسيا، يصعب على “السلطان الجديد” التوفيق بين رهاناته والواقع وسيستنتج صعوبة العودة بالتاريخ إلى الوراء.