أيّاً تكن النتائج المترتبة على خطاب السيد حسن نصرالله وما سيترتب على مواقف الوزير جبران باسيل، يبقى الأهم انّ الحكومة الجديدة هي الخطوة الاولى في خريطة الطريق الى الحل. وما دام الرئيس سعد الحريري يخوض التحدي بحكومة كما يريدها، وما دامت الأكثرية تتحكم بمستقبلها، فلماذا لا يعطى الفرصة؟ وإن لم يكن هناك خوف من نجاحه أتركوا له الحق في أن ينتحر وحيداً.
 

لا يخفي كثير من الطبّاخين المتعاملين بالملف الحكومي أنّ المخاوف الجديدة لم تبنَ على ما هو قائم الى اليوم من مظاهر الأزمة التي تعيشها البلاد، فالآتي أعظم وأخطر، وما ستبلغه الحال الاقتصادية والنقدية سيكون أسوأ بكثير ممّا هو حاصل اليوم. فمعاناة القطاع الخاص الذي يقوم عليه اقتصاد البلاد بنسبة عالية لم تبلغ بعد الحدود المتوقعة من الكارثة المرئية من اليوم، والتي قادت اليها سلسلة من الدراسات الإستشرافية والإحصاءات التي تتكىء عليها المؤسسات والتي لم توفّر كبرياتها.

ومن هذه الخلاصة المختصرة تنطلق مؤسسات التصنيف في قراءة مستقبل الوضع الإقتصادي والنقدي في البلاد ما لم ترفده الدول المانحة وبعض المؤسسات الكبرى التي فتحت خطوط الإئتمان المصرفية بشكل جزئي. فالتجربة التي دشّنها البنك الأوروبي بحوالى 250 مليون دولار عبر 3 مصارف لبنانية هي البداية بعدما حرمت مؤسسة «PRISMA» لبنان من كل امتيازاته. فهي المؤسسة التي توفر الضمانات للمؤسسات اللبنانية التي تتعامل مع المؤسسات والمصارف الأوروبية، وتعطيها الفرصة لسداد ما هو مطلوب منها من اعتمادات مالية التي تمتد ما بين 30 و60 يوماً لتوفير مشترياتها منها، ابتداء من 15 تشرين الثاني الماضي وبات عليها الدفع سلفاً. والسبب نَجم عن مضمون التعميم الذي أصدره مصرف لبنان وحَدّد فيه نسب الفوائد المصرفية بسقفها الأعلى على العملات الوطنية والأجنبية لمدة 6 أشهر قابلة للتعديل تمديداً او تقصيراً في حال تحسن الوضع النقدي أو في حال العكس.

والى هذه المعطيات، التي لا تستطيع ان تشكل فرقاً في الطريق الى استعادة نوع من التوازن المفقود بين قيمة صادرات لبنان التي لا تتعدى أربعة مليارات ونصف المليار في مقابل قيمة ما يستورده لبنان، والتي تجاوزت العشرين ملياراً، فإنّ مجرد اتخاذ هذه الخطوة يشي بأنّ الدول والمؤسسات المانحة لم تفقد الأمل في إمكان إحياء علاقاتها الطبيعية مع لبنان. وصار الأمر مرهوناً بتوفير الاستقرار الحكومي الذي يشكّل الخطوة الأولى في خريطة الطريق لاستعادة العافية تدريجاً. فليس هناك من يريد جلد لبنان الى النهاية الحتمية، والعودة الى مقررات وتوصيات مؤتمر باريس الأربعاء الماضي خير دليل على ذلك.

وقبل الغوص في الكثير من التفاصيل والأرقام المعرضة للتعديل في ظل فقدان الشفافية الكافية للتعامل مع إحصاءات وجداول موثوق فيها، فإنّ المراجع الديبلوماسية والسياسية التي تراقب الوضع في لبنان تتطلع الى كيفية مقاربة اللبنانيين للملف الحكومي والنظرة الى الإنتفاضة الشعبية التي شهدتها البلاد لبناء قراراتها المستقبلية. فقد تلمّس كثيرون انّ الحراك الذي شهده لبنان في شكله ومضمونه وأهدافه كسب الجولة الأولى من ثقة المجتمع الدولي على حساب الدولة ومؤسساتها، وتحديداً بعدما فشلت في توقّع ما هو مرتقب من أزمة مالية ونقدية هدّدت الكثير من مقومات الدولة ومسّت بهيبتها بعدما طالت قطاع المصارف الذي عدّ من أبرز القطاعات التي تحمي كيان الدولة وضمان قدرتها على سداد ديونها الداخلية والخارجية، عدا عن المخاوف التي هدّدت مدّخرات اللبنانيين والكثير من مقومات العيش في البلاد.

على هذه القاعدة تطلعت هذه المراجع الى شكل المواجهة السياسية التي يشهدها لبنان، فتوقفت عند مظاهر الأزمة الحكومية والصراع القاتل على شكل الحكومة ودورها ومن سيتولى تأليفها. ولذلك تابع بقلق بالغ سقوط مشاريع التكليف والتأليف تباعاً مع ما رافقها من تشكيك في القدرة على مواجهة المصاعب الكبرى. فرأت في استمرار التحدي بين نهجين ما يدعو الى إجراء مقاربة جديدة لا بد منها في ظل عدم وجود من يوفّر التفاهم على قواسم مشتركة، إن لم تكن قد فقدت في ظل الخيارات المتضاربة الى الحدود القصوى.

والى ذلك، فقد خلصت المراجع الى معادلة جديدة لا بد منها، وهي تستند الى عنوانين أساسيين يختصران المواجهة على الشكل الآتي:
- إصرار الرئيس سعد الحريري على حكومة تكنوقراط بعيداً من التمثيل الحزبي باعتبارها الوسيلة الوحيدة واليتيمة للخروج من كل المآزق التي تكاثرت وعمّت معظم القطاعات الأساسية في البلاد لتقود المواجهة، راهناً نجاحها بفترة لا تتعدى الأشهر الستة وإن تعقّدت يمكن أن تصل الى تسعة اشهر.
- إصرار الفريق الثاني على حكومة تكنو- سياسية توفر الغطاء السياسي لحكومة تدير البلاد بعيداً من منطق الإستئثار الذي تخشاه نتيجة الإصرار على حكومة تقنية لا تحتسب المخاوف السياسية التي تعبّر عنها شريحة من اللبنانيين عشية الإستحقاقات الكبرى الداخلية، ولاسيما التحضيرات للاستحقاق الرئاسي المفتوح من اليوم عدا عن تلك الإقليمية التي تؤرقهم، ومن بينها مصير سلاح المقاومة.

ومن خارج هاتين النظريتين لا يمكن تجاهل الشروط الجديدة التي فرضها الحراك الشعبي الذي حقق إنجازين: أولهما استقالة الحكومة، وثانيهما خروج «التيار الوطني الحر» منها طوعاً ما يؤسس لإمكانية تشكيل حكومة محايدة لتبقى هناك معضلة أخرى تتجلى بوجود الحريري على رأس الحكومة، بينما هم يريدونها حيادية ومستقلة بكامل أعضائها ومكوناتها.

على هذه الأسس تتطلّع المراجع عينها، وعلى خلفية الحاجة الى إعطاء الأولوية لتشكيل الحكومة، وبمعزل عن نظرة الحراك اليها، والذي لم تجمع مكوناته حتى الساعة على إبعاد الحريري، فقد قرأت إمكانية الوصول الى مخرج قابل للتطبيق إذا ما توفرت الإرادة الجامعة لإعطاء الحريري فرصة طالما مَحضه ايّاها «الثنائي الشيعي» لألف سبب وسبب ميثاقي ومذهبي، قبل ان تقول دار الفتوى كلمتها بإبقائه وحيداً على لائحة المرشحين السنة لتشكيل الحكومة.

وبناء على كل ما تقدم، تصرّ هذه المراجع على إمكانية الخوض في هذه التجربة فيُعطى الحريري الفرصة لتكون حكومة مؤقتة، كما أرادها، وبالحد الأدنى من الحضور المطمئن لمختلف الفرقاء بتجاهلها بعض الملفات الخلافية الكبرى كسلاح المقاومة وغيره ممّن تضاهيه أهمية ليخوض التجربة أيّاً يكن الثمن.

فالحديث عن تحميله مسؤولية الوصول الى ما وصل اليه الوضع الإقتصادي يمنحه فرصة تحميل مسؤولية المعالجة. فإن نجح كان به، وإلّا ستكون الأكثرية في انتظاره عند اول استحقاق، فاعتقاد البعض منهم أنّ تواطؤاً حصل بينه وبين المصارف ومصرف لبنان وبعض الجهات الدولية يمنح الأكثرية الحجّة بتحميله كامل المسؤولية للخروج من المأزق في ظل فقدانها أية وسيلة أخرى.

وعليه، إن نجح الحريري يصفّقون له، فنجاحه سيقطفه العهد كاملاً، وإن فشل فلتترك له حرية الانتحار وحده، ومن بعدها لكل حادث حديث، من دون ان ننسى إمكان وجود من يخشى نجاحه إذا صحّت الإتهامات الموجّهة إليه.