باعتراف الجميع انّ تأليف الحكومة الجديدة لن يكون سهلاً وسريعاً، لأنّ كل الخيارات المطروحة حيال ماهيتها إسماً وشكلاً وحجماً ومضموناً ومواصفات يقبلها هذا الفريق ويرفضها ذاك، في الوقت الذي لم يظهر أنّ التكليف قد حسم نهائياً لمصلحة الرئيس سعد الحريري أو غيره من الاسماء المرشحة المعروفة منها والمستترة.
 

التأخير في التأليف في حال تَيسّر التكليف، لن يكون في مصلحة البلاد حتماً، لأنّ الترف فيه ليس أوانه، فهناك أزمة اقتصادية ومالية بدأت تُنذر بمضاعفات قد تصل الى حد اهتزاز الامن، إن لم يكن اضطرابه بعنف او تدهوره، ما يفرض الاسراع في لجمها والبدء بمعالجتها داخلياً وخارجياً، وهنا لم يعد مهماً اسم من يتولى رئاسة الحكومة بمقدار أهمية نوعية فريق العمل الحكومي وكفايته في التصدي للازمة وإعطاء ثقة للداخل والخارج بقدرته على الإنجاز.

أربعة نماذج للحكومة العتيدة عرض لها الامين العام لـ»حزب الله» في طلته التلفزيونية بعد ظهر أمس، وهي:
1 - «حكومة اللون الواحد» التي تجمع «حزب الله» وحركة «أمل» و»التيار الوطني الحر» وجميع حلفائهم، وهي غير واردة التأليف لدى المعنيين.
2 - «حكومة لون واحد آخر» ينسحب منها او لا يشارك فيها «حزب الله» و»التيار الوطني الحر» وبقية الحلفاء، وهي غير واردة التأليف.
3 - حكومة برئاسة الحريري، أي «حكومة الاختصاصيين» التي ينادي بها الرجل منذ استقالته، بحيث يكون جميع وزرائها من التكنوقراط ولا انتماء حزبياً أو سياسياً لهم، يعني حكومة لا شأن لها في السياسة.
4 - حكومة برئاسة شخص يسمّيه الحريري وتوافق عليه الاكثرية النيابية، وقد فشل الوصول اليها بعودة الحريري عن عزوفه عن الترشيح.

لكنّ نصرالله خلص الى اقتراح ان تكون الحكومة العتيدة «حكومة شراكة وطنية» بحيث يشارك فيها الجميع بلا استثناء ومن ضمنهم «الحراك الشعبي»، موجّهاً بذلك رسائل من كل الاتجاهات، وخصوصاً للأفرقاء المُستنكفين عن المشاركة في الحكومة ومنهم «التيار الوطني الحر» و»القوات اللبنانية» وحزب الكتائب، وغيرهم من المستنكفين او الذين يمكن ان يستنكفوا عند مفاتحتهم في أمر المشاركة في الحكومة العتيدة.

ولذلك، فإنّ كل المؤشرات تدل الى الآن انّ خيار الحكومة التكنو-سياسية يتقدّم على خيار حكومة الاختصاصيين، ولكن نفاذ التكنو- سياسية يتطلّب تنازل معارضيها، وفي مقدمهم الحريري في حال تكليفه من عدمه، بحيث يتمثّل فيها الجميع ولا يستثنى منهم إلّا من يستثني نفسه. اما اذا لم يتم الاتفاق على هذا الخيار الذي يراعي «اتفاق الطائف» نصاً وروحاً ودستوراً، فغالب الظن انّ ولادة الحكومة الجديدة ستتأخر طويلاً، وسيكون الخيار المرحلي أمام الجميع تعويم حكومة تصريف الاعمال الى أجل لا يمكن التكهّن به، وهذا ما لمّح اليه السيّد نصرالله في وضوح.

ولكن قبل التأليف، من الطبيعي والبديهي أن يحسم مصير التكليف، خصوصاً بعد إحراق بعض المرشحين لرئاسة الحكومة وإعلان ترشح الحريري من دار الفتوى، إذ تبين انّ هذا الإعلان من هذا الموقع الديني بالذات كان رسالة في كل الاتجاهات، وخصوصاً لأولئك الذين يعارضون بقاء الحريري في سدة الرئاسة الثالثة، سواء في الداخل او على مستوى بعض العواصم العربية والغربية التي يتردد في الاوساط السياسية انها لم تُخفِ عدم تأييدها ترشيح الحريري.


وقد برزت معارضة هذه العواصم من خلال ما شهده اجتماع المجموعة الدولية لدعم لبنان في باريس قبل ايام من نقاشات تضمنت انتقادات لمسؤولين سياسيين وماليين في لبنان كانوا حتى الأمس القريب موضع الاشادة والتنويه و»مربط خيل» بعض المؤتمرات الدولية، في اجتماعات هذه المجموعة وغيرها.

وفي ضوء هذه المعطيات، يقول بعض المتابعين انه يمكن فهم خلفيات إعلان ترشيح الحريري لرئاسة الحكومة من دار الفتوى، وليس من أي مكان آخر، على «رماد» المرشحين الذين أحرقوا في هذا «أتون التكليف» قبل إشعاله، والذي تنبّه كثيرون اليه في اللحظات الاخيرة ما حال دون ألسنته أن تحرق مرشحين آخرين ما زالت لهم حظوظ التحليق في الفضاء الحكومي.

غير انّ ما ينبغي على المعنيين الالتفات اليه، في رأي هؤلاء المتابعين، هو انّ ترشيح الحريري من دار الفتوى لا يعني انّ إجماع بيئته وطائفته عليه كامل وناجز، فعلى رغم من مكانة الرجل السياسية وعلاقاته العربية والدولية الواسعة، يوجد داخل بيئته تحديداً 3 فئات تختلف في النظرة إليه:
- فئة تؤيّده بالاستناد الى إرث والده الرئيس الراحل رفيق الحريري ونهجه، وتريد لهذين الارث والنهج ان يستمرا من خلال الحريري الإبن.
- فئة تؤيده في العلن تماشياً مع اجواء الطائفة، ولكنها تعتقد انّ الرجل «سيحترق» سياسياً في أتون الازمة الاقتصادية والمالية، ما يُضعف موقعه في الحياة السياسية ويُفقده عنصر المنافسة بل التقدم على الآخرين في الاستحققات الحكومية.
- فئة لا تؤيّد بقاءه في رئاسة الحكومة ولا تحبّذ في الوقت نفسه ان يحل مكانه أي من اعضاء نادي رؤساء الحكومة السابقين، وتدعو الى اختيار شخصية جديدة لرئاسة الحكومة من خارج هذا النادي بغية توسيع هذا النادي، ولا ضرورة لأن تكون منتمية الى أيّ من العائلات او البيوتات السياسية التقليدية السنية.

ظاهِر المشهد السياسي يدلّ الى انّ استشارات التكليف آيلة الى الانجاز الاثنين بتسمية الحريري، او غيره، وقد لمّح نصرالله وآخرون الى هذه النقطة إذ لم يصرّح أحد علناً بعد مؤكداً انّ التكليف معقود للحريري فقط، وإنما أوحى وكأنّ هناك خيارات اخرى يمكن ان تظهر في اللحظات الاخيرة من موعد الاستشارات التي يصرّ كثيرون على انها لن تؤجّل مجدداً.

ولكن باعتراف السيد نصرالله ومعه كثيرون في كل الجهات والاتجاهات، انه أيّاً كان الرئيس الذي سيكلّف فإنّ تأليف الحكومة لن يكون سهلاً إلا اذا حصلت تنازلات تُفضي الى حكومة تكنو-سياسية يمكن ان يكون رئيسها سياسياً او من التكنوقراط، لأنّ الخيار الذي بدأ يلمّح إليه كثيرون منذ ايام، وعلى رأسهم الوزير جبران باسيل والنائب طلال ارسلان، هو انها ستكون حكومة تكنوقراط رئيساً ووزراء جميعاً، هو أيضاً خيار لا يمكنه النجاح لأنه لا ينسجم مع «اتفاق الطائف» نصاً وروحاً ودستوراً...