إعتبر البعض أنّ دار الفتوى ألغت الاستشارات النيابية الملزمة بتسميتها الرئيس سعد الحريري مكلفاً أوحد لرئاسة الحكومة، ولكن لم يبحث هذا البعض في الأسباب التي دفعت مفتي الجمهورية الشيخ عبد اللطيف دريان إلى اتخاذ هذا القرار.
 

إنّ تبدية عملية التأليف على التكليف استفزّت الطائفة السنية التي شعرت بأنها مستهدفة في دورها المَنصوص عليه في الدستور على مستويين: إهمال الدعوة إلى الاستشارات النيابية الملزمة التي عدّلت في اتفاق الطائف وأصبحت ملزمة في إجرائها ونتائجها، ودور رئيس الجمهورية في هذا الإطار يكمن في الدعوة فوراً إلى الاستشارات وتزكية الشخصية التي تنال العدد الأكبر من الأصوات، وهو بهذا المعنى «صندوق بريد أمين»، أمّا تأثيره فيكون في إقناع الكتل والنواب بشخصية معينة ربطاً بموقعه المعنوي، أو عبر تكتله النيابي الذي يمكنه أن يؤدي دوراً في ترجيح كفة مرشّح على آخر. وباستثناء ذلك على الرئيس التقيُّد حرفياً بأصوات النواب وإعلان نتيجة الاستشارات فور انتهائها.

أمّا المستوى الثاني الذي استفزّ الطائفة السنية، فيكمن في إلغاء دور رئيس الحكومة المكلف إجراء المشاورات السياسية من أجل تأليف الحكومة بحجّة انّ الرئيس المكلف يضع التكليف في جيبه ويؤخر التأليف، ولكن لو كان ذلك صحيحاً لماذا لم تؤلف الحكومة لغاية اللحظة والتي يتم تأليفها في القصر الجمهوري على رغم مرور حوالى الشهرين؟ والجواب ببساطة لأنّ مسؤولية التأخير لا تقع على عاتق الرئيس المكلف، بل تتصل بتعقيدات الوضع في لبنان، والتأخير الذي طال جداً في تأليف حكومة الحريري المستقيلة يتحمّل مسؤوليته الوزير جبران باسيل بسبب الشروط التي وضعها بدءاً من الثلث المعطّل، وصولاً إلى محاولة تحجيم «الحزب التقدمي الإشتراكي» وتحجيم «القوات اللبنانية» من أجل إحراجها فإخراجها وتمثيل سنّة 8 آذار.

وما استفزّ الطائفة السنية أيضاً أنّ الطرف المؤلِّف للحكومة يريد تكليف من «يَبصم» على تشكيلته الحكومية المعلّبة، ما يعني انتزاع صلاحية التأليف من الرئيس المكلف والتعامل معه كمجرد غطاء لتركيبة معدّة خارج دوائر السراي الحكومي، وكأنّ مهمة الرئيس المكلّف البصم على تشكيلة أعدّها غيره، فيما الدستور واضح جداً لجهة انّ الرئيس المكلف يجري مشاورات التأليف مع الكتل النيابية والقوى السياسية، وفي طليعتها رئيس الجمهورية الذي تكمن صلاحيته الأساسية، وهي مهمة للغاية، في قلمه الذي يستطيع من خلاله توقيع او عدم توقيع التشكيلة التي يرفعها إليه الرئيس المكلّف، وهذا ما يجعله جزءاً لا يتجزأ من عملية التأليف والحوار الدائر حولها.

فالدستور بهذا المعنى أرسى التوازن بين رأسي السلطة التنفيذية، لأنّه بمجرد أن ينصّ على إلزامية توقيع رئيس الجمهورية يعني انّ الرئيس المكلّف لا يمكنه تجاوز رئيس الجمهورية في مشاورات التأليف وإلّا تشكيلته لن تبصر النور، فيما لا يمكن لرئيس الجمهورية بالمقابل أن يجري استشارات التأليف قبل التكليف ومصادرة صلاحية أساسية لرئيس الحكومة.


وبعد كل ما حصل من تغييب لدور رئيس الحكومة هل يعقل أن تُسأل دار الفتوى، والمرجعيات السنية التي تبدأ بالرئيس الحريري ولا تنتهي برؤساء الحكومات والنائب نهاد المشنوق واللواء أشرف ريفي والفعاليات السنية على اختلافها، عن سبب تمسّكها بمرشح أوحد وتحويل الدار إلى ممر إلزامي لاستشارات إلزامية تشكّل بدلاً عن استشارات لم تتم في القصر الجمهوري؟

فدار الفتوى والمرجعيات السنية لم تتصرّف على هذا النحو لو تم احترام المسار الدستوري الطبيعي من عملية التكليف إلى التأليف، خصوصاً انّ ما حصل على هذا المستوى ليس استثناءً، بل هو تتويج لمسار طويل من استفزاز الطائفة السنية وعدم التعامل مع رئيس الحكومة كشريك والتلويح بتعديل الدستور من أجل وضع مهل للتأليف وإعادة النظر في المادة 95 والكلام عن سنية سياسية جاءت على جثة المارونية السياسية، وغيرها الكثير الكثير...

فالطائفة السنية بهذا المعنى كانت في موقع رد الفعل لا الفعل، وفي موقع المستهدَف لا المستهدِف، واي طائفة أخرى كانت ستتصرف على النحو نفسه إذا استهدفت بالشكل ذاته، ولماذا على الطائفة السنية أساساً أن ترضى بما لا تقبله الطائفة الشيعية أو المسيحية على نفسها؟ وهل يرضى المكوّن الشيعي بانتخاب رئيس مجلس النواب من خارج دائرة الثنائية الشيعية؟ ومن ثم إنّ الأكثر تمثيلاً في الطائفة السنية، أي الحريري، مدعوماً من أكثر من طرف داخل طائفته، لا يريد تشكيل حكومة يضع مواصفاتها غيره، خصوصاً أنه يدرك أنّ هذه المواصفات لن تنقذ البلد من الانهيار المالي. وبالتالي، هو غير مضطرّ أن يقدم على تأليفٍ مصيره الفشل، فيما عزمه على تشكيل حكومة بمواصفات المرحلة الاستثنائية مردّه إلى أنّ الحالة الاستثنائية تستدعي تشكيل حكومة استثنائية.

 

أمّا المطلوب اليوم فهو العودة إلى نص الدستور وروحه من خلال اعتبار انّ كل ما استتبع استقالة الحكومة كان مضيعة للوقت، وذلك عبر تكليف فتأليف، ولكن مضيعة الوقت تعدّت الآليات الدستورية، إلى تسريع وتيرة الانهيار. وبالتالي، المطلوب العودة إلى الدستور أولاً، وتشكيل حكومة قادرة ثانياً على مواجهة الأزمة المالية غير المسبوقة بتاريخ لبنان، أي حكومة اختصاصيين مستقلين.

 

وفي مطلق الحالات يقف لبنان اليوم أمام وضع معقّد للغاية: فريق العهد و«حزب الله» يريد تأليف حكومة تكنو-سياسية، ولكنه عاجز عن تأليفها وعاجز أيضاً عن تكليف رئيس حكومة، فيما الحريري يتمسّك بحكومة اختصاصيين مستقلين، وبالتزامن يواصل لبنان انهياره، ولكن بالنسبة للحريري وقبله «القوات اللبنانية» لا حاجة الى تأليف حكومة لن تختلف في نتائجها ومؤدياتها عن مؤديات الفراغ، وبالتالي إمّا تأليف حكومة تكنوقراط مستقلة أو لا حكومة، ويتحمّل العهد والحزب مسؤولية هذا الانهيار، لأنه ما الحائل دون الموافقة على حكومة استثنائية من هذا النوع ولفترة انتقالية إنقاذية سوى التمسّك بالسلطة والنفوذ على حساب البلد والناس؟